الأربعاء، 19 يونيو 2019

تايلند - في قطار الليل نحو الجنوب




رحلات في تايلند
في قطار الليل نحو الجنوب

    ينطلق القطار الليلي مخترقاً ظلمة الجبال التايلندية نحو الجنوب. يمكن الإحساس بسرعته الفائقة من صوت ضربات متلاحقة للسكة الحديدية تحت المقعد. المقعد الذي يتحول سريراً في الليل. كنت قد استلقيت بعد أن أنرت مصباح قراءة صغير خلف رأسي. للمصباح ضوء ناعم، وعن يميني الزجاج المظلم للنافذة. كانت الحقول والجبال قد توارت بعدما غربت الشمس. 
تساءلت: أنكون، ونحن في الشرق، أقرب لهذه الشعلة الكونية وهي تغسل كل صباح النصف الأيمن لكرتنا الزرقاء؟ هنا حيث تعيش أمم نجهل إلى أي عمق يمتد تاريخها، عمق يمور بعظماء وبأساطير وكتب الحكمة والأشعار المذهلة.

إلى يساري ستارة تفصلني عن ممر ضيق، وأسرّة أخرى ممتلئة برحّالة أسمع بوضوح أصواتهم. ثرثرة و قهقهات. أقرأ في رواية اقتنيتها بالأمس من مكتبة للكتب المستعملة من السوق الشعبي في الجزء القديم من بانكوك. قرأت حتى هبط عليَّ النعاس، ولفني بردائه المظلم. نمت بعمقٍ وبلا أحلام، ثم استقيظت فجأة بعد آلاف الكيلومترات في مدينة لا أعرف لها إسم جنوبي تايلاند.

هبطت قبل اربع ليالٍ إلى هذه البلاد. في اليوم الثاني وفي الحادية عشر صباحاً كنت في صالة مستشفى (بوم رانغراد) أنتظر دوري لفحص طبي شامل. في أول ليلة تناولت عشائي في مطعم مفتوح في الهواء الطلق وسط سوق “نايت بازار” الذي يضم محال صغيرة ضيقة ومتراصة ممتلئة بكل ما يمكن لك تخيله من البضائع. كنت قد عن السوق في مجلة في الطائرة التايلندية التي حملتني من دبي مدة خمس ساعات ونصف.
وصلت إلى بباص من فندق “أماري ووترغيت”. 

اقتنيت قميصين وبنطلونين من الكتان، صابونة من الأعشاب الطبيعية وزجاجة صغيرة من زيت الخزامى. في ذلك المطعم شربت عصير جزر ممزوج بالبرتقال وله مذاق حلو، وصحن دجاج مطبوخ بالأعشاب والتوابل مع رز محمص. كنت أخشى الفلفل الحار الذي يستخدمونه هنا بكثرة، إلا أنه كان لذيذاً بحيث أنهيته بسرعة. كنت الوحيد وحدى، فالمكان مزدحم بالناس الذين يثرثرون ويضحكون في مجموعات. الليل يحتضن المكان بكل حب، والزاوية التي أجلس فيها حميمة كسرير. كنت استمع إلى عزف فرقة موسيقية من ثلاثة من الشبان. أحد العازفين يعزف على آلة وترية منصوبة فوق مقعد خشبي له رجلان متقاطعتان، وهي آلة لم أر مثيلاً لها من قبل، يُضرب على أوتارها بعصاتين. نغماتها تشبه أنغام السنطور المستخدم في إيران وتركيا.

عليّ الليلة أن أستعد للكشف الطبي غداً. كان بعض الأصدقاء قد وصفوا لي جودة الخدمة في هذا المستشفى فقررت أن آتي إلى تايلاند وأقوم بالكشف الشامل. علي الصوم عن الأكل والشرب لثمان ساعات. لدي توجس من نتائج الفحص على الرغم من أنني لا أشكو أي ألم، لعل السبب هو أنني لم أقم بالكشف الكامل على جسدي من قبل.

في ذلك اليوم نمت باكراً وبعمق ونهضت مع بزوغ النور. أخذني التاكسي إلى المستشفى. لقد أقام الجيش الإميركي هذا المستشفى لعلاج جنوده في حرب الكوريتين قبل أكثر من خمسة عقود، ولهذا فإنه معتمد طبياً من وزارة الصحة الأميركية ويعتبر أحدث مستشفيات شرق آسيا. ويتميز بنظامه الدقيق والمعاملة الخاصة التي يتلقاها كل زائر منذ أول لحظة للدخول وحتى الإنتهاء من الفحوصات أو العلاج. رافقتني ممرضة إلى أول عيادة للفحص، وتضم فحص الوزن والطول وضغط الدم. ثم تم فحص الدم وسألني الدكتورعن أي أمراض أو عمليات جراحية سابقة وعن تاريخ عائلتي الطبي السابق.

بعد ذلك، ذهبت إلى عيادة تخطيط القلب. طلبوا مني تغيير ثيابي وأرتداء ثياب المستشفى. استلقيت ووضعوا مجموعة من الأسلاك على صدري ويدي ورجلي. كانت موصولة بجهاز مربوط بشاشة كمبيوتر. بعد هذا نٌقلت إلى موضع آخر حيث ثبّتوا مجموعة من المجسات على مواضع متعددة من صدري. أما يدي فقد قيّدت بجهاز قياس الضغط . كل تلك الأسلاك المتشابكة المتصلة بعدة شاشات جعلتني أفكر بمدى تشابك الجسد الإنساني. إنه مكون من آلاف الخلايا والأنسجة والأجهزة التي لانشعر بما تقوم به من عمل منذ أن يبدأ قلب الجنين بالنبض إلى أن نصل إلى نهاية حياتنا. جسدنا الذي نعيش فيه يستمر في عمله الدؤوب دون أن يكون لنا القدرة على ادراك العمليات المعقدة التي يقوم بها طوال حياتنا.

قمت بتخطيط للقلب بضعة مرات سابقاً. كنت أشعر أحيانا ببعض الوخزات في الصدر وبما يشبه الإضطراب في النبضات. حدث هذا أول مرة في الولايات المتحدة. أجريت الفحص في مستشفى الجامعة التي كنت أدرس بها عام 1995. كانت النتيجة طبيعية. لا شيء. لكن الأمر عاودني فأجريت فحصاً بعد سنوات، وكانت النتيجة طبيعية أيضاً.

 وقفت على آلة تشبه آلة رياضة الجري في صالات الألعاب الرياضية. وقفت أمامي دكتورة قصيرة ذات جسم سمين مع ممرضتين مساعدتين نحيفتين. يبدو على الدكتورة الخبرة والمعرفة، فهي توجّه للممرضتين تعليمات، وتقوم إحداهن بإدخالها في جهاز الكشف. طلبوا مني المشي، ثم شعرت أن جهاز الضغط المربوط في ساعدي يضغط علىّ بالتدريج وبدأت سرعة الجهاز بالإزدياد. 

ثم بدأ الجهاز بالإرتفاع من الأمام والسرعة تزداد تدريجياً. كنت كمن يصعد سلماً يرتفع شيئاً فشيئاً. بعد لحظات بدأت أشعر بألم في عضلات الساق. قاومت الألم و واصلت المشي السريع. إلا أنني أحسست بالإجهاد يسري في أعضائي. سألتني الدكتوره إن كنت قد تناولت أي طعام." أنا صائم منذ ليلة الأمس" . زادت سرعة الجهاز وبدات أهرول. سألتني إن كنت أحس بالتعب أجبتها هززت ر أسي " نعم" و واصلت المشي. ثم عادت تسألني. حينها بدأت أشعر بدوخة في راسي. قالت سأسرع الجهاز. قلت" لا". وتوقف الجهاز.

جلست أشرب الماء الممزوج بالسكر. وبدأت أفكر بالرياضيين الذين يمارسون التمارين اليومية المجهدة لساعات. قلت لنفسي أننا نفضل أن نجلس ونقرأ أو نكتب في كسل. لانتحرك، جهودنا ذهنية تماماً، تخلو من أي محاولة لتحريك عضلات الجسد، وهذا ينعكس على قدرتنا في التحمل ونسقط سريعاً في الأمراض العضوية والنفسية، نتيجة الأحمال التي نضعها في رؤوسنا والتي لاتجد لها تفريغاً عضلياً. يفرز الجسم الرياضي أنزيم الأدرينالين المضاد للقلق والتوتر، وتساعد التمارين في إخراج السموم والشحوم. وبالرغم من سعة معارفنا، نتجاهل ذلك. نتحدث– باللسان أو القلم-  أكثر بكثير مما نعمل.

وصلت إلى المدينة التي يتوقف فيها القطار. يهبط الركاب الذين سيذهبون إلى أماكن أخرى، وأنا منهم، حيث  ساذهب إلى (بوكيت)، وهي مدينة تقع في أقصى الجنوب التايلاندي، أما القطار فسوف يواصل رحلته إلى مدن أخرى. علي أن استقل باصاُ مدة خمس ساعات. كان بالإمكان أن أستقل الطائرة وأصل بسرعة في أقل من ساعتين. غير نني فضلت القطار والباص حتى اتمكن من رؤية هذه البلاد. تنقلنا الطائرة بسرعة وبراحة إلى حيث نريد، إلا أننا لا نرى الجغرافيا التي نقطعها، لانشاهد السهول والجبال والأنهار والبحار. كنتُ في باص صغير، به سياح أجانب. وعدت بعد أن تحرك الباص استعيد ماحدث لي في المستشفى.

اقتادتني ممرضتان إلى فحص الموجات الصوتية  للرئة والكبد والكلى والمثانة وأجزاء أخرى لا أعرفها في جسمي. كان علي تجرع زجاجة ماء كاملة حتى تكون صورة الفحص واضحة على شاشة الكمبيوتر كما يقولون. عندما وضع جهاز الموجات الصوتية على جسدي طلب مني الدكتور أن آخذ نفساً عميقاً وفيما كان الجهاز يقوم بالتصوير سرت الشكوك في ذهني. تُرى ما الذي سيجدونه؟ سمعت كثيراً عن أن من يتجاوز الأربعين من الرجال معرضين بنسبة كبيرة لسرطان الكبد أو الكلى أو المثانة. حاولت إبعاد الشكوك بالتركيز الذهني على التنفس الهادىء والعميق. 

أغمضت عيني وتذكرت المدرب الهندي الذي أنقذني من آلام العمود الفقري. كنت قد لجأت إليه وأنا أعاني من آلام “الديسك” التي لاتطاق. شرحت له ما أحس به. إبتسم بكل حب، ولم يتحدث أبداً، بل طلب مني أن أستلقي على الأرض. جعل ضوء الغرفة خافتاً أشعل شمعة، وانسابت موسيقى هادئة من مكان ما. طلب أن أغمض عيني وأن أسترخي تماماً. بعدها بدأ صوته يصل إلي. إجعل عضلات وجهك مسرتخية. خذ نفساً عميقاً ببطء، إحبسه، ثم أجعله يخرج ببطء. أنت تنستنشق هواءاً مليئاً بالأوكسجين، وبالطاقة، والهواء يدخل إلى رئتيك، ثم تنقل الأوردة هذه الطاقة إلى يديك، رجليك، رأسك. وفي الظلام الهادئ الذي تراه على شاشة ذهنك، أنت تسترخي، جسدك يتلقى طاقة الكون الإيجابية. أنت جزء من الكون الحي المليء بالطاقة. تنفس الطاقة الكونية، دعها تملؤك بالحياة. لا تفكر في أي شيء أو بأي شخص. أنت هنا مع نفسك. لا تكترث لما حدث لك قبل أن تأتي إلى هنا، ولا تفكر فيما ستفعله بعد الآن.  لاتفكر في العمل أو العائلة أو الهاتف النقال. عش الآن. عش هذه اللحظة، واسترخ. لا شيء يهم الآن سوى هذا التنفس العميق. أنت مسترخي تماماً. أنت بلا ألم.

وهذا ماحدث. ذهبت كل الآلام كما لو كنت قد تناولت دواء مخدراً. أخذنتي جلسة العلاج تلك في رحلة رائعة في جسدي وفي الكون. اكتشفت أن بداخلنا كون يضج بالحياة والحيوية. بيد أننا لا ننتبه إليه. نمضي دون اكتراث، بينما يقوم جسدنا بكل عمليات التنفس والهضم والنبض والدورة الدموية دون أن نساهم فيها. في هذه الطاقة الكونية، يوجد العلاج. في ذلك النبض الذي يستمر من الولادة إلى الموت دون كلل تكمن الحلول للعديد من المشكلات. علينا فقط الإنصات لذلك الصوت الداخلي. لذلك الصوت الإلهي. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

  شعر ميري أوليفر : ترياق لتجاوزات الحضارة ترجمة - خالد البدور فقد الشعر الأميركي   عام  2019  ميري أوليفر، أحد الأصوات الشعرية ...