السبت، 29 يونيو 2019

شاعران من الصين القديمة



إعداد وترجمة: خالد البدور


                                                  الشاعر دو فو





يُعد الشاعر دو فو أحد رواد الشعر في الصين القديمة. عاش ما بين عامي 721 و 

772 للميلاد، خلال عهد أسرة تانغ. وعلى الرغم من أنه عاش حياته كموظف عام في 

حياة مستقرة، إلا أنه عانى بعد ذلك إثر حدوث اضطرابات عام 755 ، والتي أثرت

في مجمل الحياة في الصين في ذلك العهد. تمت المحافظة على أشعاره، ويتوفر منها 

حالياً ما يقارب 1500  قصيدة. لُقِّب (الشاعر المؤرخ) و (الشاعر الناسك).


أربع مقاطع لتوديع دوك يان في محطة فينجي


بعد رفقة طويلة، بعد هذه اللحظة سنفترق.
أيتها الجبال الخضراء: هذا أنا أردد احزاني بحرقة
في أي يوم سنتناول من الكأس معاً؟
ليلة البارحة سافرنا معاً تحت ضوء القمر
في كل إقليم، أنت
في ثلاثة أقاليم جديدة وقديمة تم تكريمك.
أما أنا فسأعود إلى قريتي قرب النهر
لأقضي ما تبقى من حياتي في عزلة.

مقدم الربيع

سقطت المدينة: لم يتبق سوى التلال والأنهار.
كانت الشوارع خضراء بالعشب والأشجار في الربيع.
الأزهار تنتحب حزانى على هذه الأزمنة.
لقد روّعت قلبي الطيور، وأخشى أن تهاجر.
نار المنارة تشتعل منذ ثلاثة أشهر،
وأصبحت رسالة من الوطن تساوي آلاف القطع الذهبية.
ها أنا أخربش الشَّعر الضئيل على رأسي الأبيض
محاولا تثبيته بدبوس شعر دون جدوى.

قمرٌ مكتمل

فوق البرج قمر مكتمل وحيد.
على النهر البارد مروراً بالبيوت الممتلئة بالليل،
إنه ينثر الذهب المضطرب عبر الأمواج.
لمعانه على السجاد، أبهى من القماش الحريري.

قمم فارغة، صمت: بين النجوم المتناثرة،
ينجرف دون عيب. صنوبر وقرفة
تنتشر في حديقتي القديمة. . . كل الضوء،
كل العشرة آلاف ميل، دفعة واحدة، تحت ضوئه!


                                                الشاعر لي بو



يعتبر لي بو أحد رواد الشعر الصيني في عهد أسرة تانع، ما بين عامي 701 و 762. وقد عُد منذ ذلك العهد كشاعر متميز وخاصة في الشعر الرومانسي، حيث قام بنقل الشعر الصيني إلى مستويات عليا في التعبير الشعري. كان هو، وصديقه الشاعر دو فو، أهم شاعرين في حقبة أسرة تانغ، والتي يطلق عليها "العصر الذهبي للشعر الصيني". يتغنى في شعره بالصداقة والطبيعة والعزلة.

زيارة لمعلم التاو داي تيان شان دون التمكن من ايجاده

كلب ينبح بقرب صوت المياه.
والندى يلوِّن أزهار شجرة الخوخ. في الغابات

رأيت بضعة غزلان، ثم بقرب الخليج،
لم أسمع أجراس منتصف النهار تُقرع في المعبد.

خيزران بري يقسّم الضباب الأزرق
وجدول معلق في القمم الياقوتية.

لا أحد يعرف أين ذهبتَ. مع هذا
وجدتُ شجرتين أو ثلاثة من الصنوبر.

الماء الأخضر

قمر الخريف ينير الماء الأخضر
وكل الصبايا يجذفن باتجاه بحيرة الجنوب
لجمع الليلك المائي:
يزهر اللوتس ساحراً، كما لو أنه يهمس،
وتنفطر قلوب تلك الصبايا لجماله الشاحب.


إلى دو فو من شانتانغ

تسألني كيف أقضي وقتي
أنني أتوسّد جذع شجرة
منصتاً لرياح الخريف
تمرُّ عبر أشجار الصنوبر طوال الليل والنهار.

لا يمكن أن يسكرني نبيذُ شانتانغ.
ويضجرني شعراؤها المحليين
غير أن تفكيري يبقى معك
كما لو كان نهر "وين" يتدفق دونما نهاية. 

الجمعة، 21 يونيو 2019

بيت الضيافة: جلال الدين الرومي

الصورة: بيت قديم - مدينة العين- تصوير خ. البدور

شعر: جلال الدين الرومي 
ترجمة: خالد البدور

قصيدة بيت الضيافة لجلال الدين الرومي معروفة على نطاق واسع في اوساط الروحانيين والباحثين عن الحقيقة والباحثين عن اليقظة أو الإستنارة. 

القصيدة تتحدث عن اشياء عدة، إلا أن الرسالة الأساسية التي تقف خلفها، تقول أنه على الإنسان أن يتلقى كل ماتجلبه له الحياة، أكانت تأتي في شكل جيد أو سيء، جميل أو قبيح. علينا تقبُّل كل مايحدث لنا أكان سلبياً أو إيجابياً بشكل واعٍ. 

يحثّنا جلال الدين الرومي أن نجعل أنفسنا منفتحين لأي شيء تعطينا إياه الحياة سواء في داخلنا أو في خارجنا. حين نتلقى ذلك يجب أن لانكون خائفين أو لدينا كراهية لهذا الشيء، فقد يجعلنا هذا أكثر حكمة وأكثر تعاطفاً مع الذات ومع الآخرين.      

بيت الضيافة

شعر: جلال الدين الرومي 
ترجمة: خالد البدور


هذا الإنسان بيت للضيافة
في كل صباح يصله زائر جديد
مثل:
الفرح، الحزن، الدناءة
إنها لحظات وعي خاطفة 
تأتي كما لو كانت ضيفاً غير متوقع
استقبلهم كلهم ورَفِّه عنهم.
حتى وإن كانوا مجموعة احزان
يجتاحون بيتك بعنف ويفرغونه من محتوياته،
مع ذلك، عامل كل ضيفٍ بشهامة
فقد يكون هدفه تنظيف المكان لك
من أجل متعة جديدة.

كل الأفكار السوداء، والعار، والرغبة في الإيذاء
استقبلهم جميعاً ورحب بهم عند الباب وأنت تضحك
إدعوهم للدخول.
كن ممتناً لأي شيءٍ يأتيك
لأن كل شيء مُرسلٌ لك
من العالم الآخر.  


أنت الوجود: الوحدانية في الفكر الهندوسي





إعداد وترجمة: خالد البدور

من المعروف أن الإيمان بوحدانية الوجود ظهر في كل الأديان على وجه العموم. وقد قدم الفكر الصوفي في الإسلام إنجازات هامة في هذا الجانب على يد كبار المتصوفة. إلا أنه من الضرورة التعرف على ما قدمته الأديان الأخرى، مما يمكننا من معرفة كيف تتلاقى وتتقاطع الفلسفات فيما بينها. هنا تعريف بالوحدانية كما جاءت في الفكر الهندي، خاصة في سفر الهند الأكبر، الأوبانيشاد.

ظهرت فكرة الوحدانية في أقدم نصوص الفلسفة الهندية وهي الأوبانيشاد  Oppanishad، التي يمكن اعتبارها أحد أقدم كتب الفلسفة في تاريخ الفكر البشري. يؤرخ معظم الدارسين ظهور الأوبانيشاد إلى حقبة تعود من 600 إلى 800 قبل الميلاد. والفلسفة التي ولدت من تفسيرات الأوبانيشاد، والتي نتحدث عنها يطلق عليها الفيدانتا Vedanta. والفيدانتا هي كلمة من جزئين، تعني حرفياً (آنتا) أي نهاية، والفيدا تعني (المعرفة)، أي أنه لا توجد معرفة بعدها. كما تطلق تسمية الفيدا على نصوص فلسفية هندية، وهي، بهذا الاعتبار، مجمل (المعرفة). والمعرفة المقصود بها هنا غير محددة بالمعارف التي نأخذها حين نقرأ الكتب على سبيل المثال بل تعني معرفة حقيقة الوجود، وحقيقة الروح التي تكمن في الإنسان، والذي هو جزء لا يتجزأ من الوجود. بهذا يمكن تعريفها بمعرفة أو إدراك حقيقة النفس.

تعتبر هذه المدرسة الفلسفية اليوم إحدى أهم ست مدارس فلسفية هندية، وهي كذلك تحتوي بداخلها تفريعات عدة إلى درجة أن اعتبارها فلسفة واحدة قد يكون تجاوزاً هنا، ولكننا سنختصر التعريف بأهم تفسير للوحدانية في الفيدانتا وهو الأكثر انتشاراً، ليس في الهند وحدها، بل في العديد من ثقافات العالم. 

الواحد دون ثانٍ

تتعدد تفسيرات الوحدانية لكننا هنا سنقتصر على هذا التفسير الذي يبدو أنه هو الأقرب لروح فلسفة الفيدانتا. توجدت مقولات عدة في الأوبانيشاد تختصر الوحدانية مثل هذه المقولة، وهي بالسنسكريتية: (سرفام ميدام براهما) أي: كل شيء هو براهما. هذا يعني أن كل ما نراه هو براهما. أي براهما هو الأوحد. وبراهما في اللغة السنسكريتية تعني الحقيقة المطلقة.

ثم يتم شرح الحقيقة المطلقة بالقول بالسنسكريتية: (إيكام أدفيتيام) أي: الواحد دون ثانٍ. أي لا توجد حقائق بل حقيقة واحدة، ولا توجد حقيقة ثانية. وحين نتأمل هذه المقولة نكتشف أن الفلاسفة الكبار لهذه الفلسفة لم يكونوا يؤمنون بتعدد الآلهة كما يبدو في الديانات الهندوسية، بل يؤمنون بحقيقة واحدة مطلقة. كذلك فإن الإيمان بالوحدانية يلغي ثنائية الخالق والمخلوق والإنسان والكون والإنسان والآخرين وبقية الكائنات. إنهم يرون أن كل مظاهر الوجود تنويعات وتمظهر للحقيقة الواحدة في أشكال لامتناهية. كل هذا الوجود يعيش وفق قانون كوني واحد بتناغم وانسجام. 

بكلمات أخرى تعني الوحدانية هنا اللاثنائية أو Non- Duality، أي لا يوجد انفصال بين الإنسان والوجود، وأن الوجود وحدة واحدة. قد تبدو هذه الفكرة غريبة، وضد أي تجربة نعيشها في الحياة. إنها تتناقض مع أكثر الحقائق التي نعرفها. هناك الملايين من الأشكال في الوجود والكثير منها لا علاقة بينها أبداً. أي ترابط هناك بين الهواء والماء؟ أي ترابط بين الصخور والأشجار؟ كيف تكون هذه الأشياء شيئاً واحداً؟ تجيب الفيدانتا عن هذه الأسئلة، لكن قبل ذلك يجب المضي لشرح مجمل هذه الفلسفة.

الجانب الأكثر خصوصية هنا، أن تلك الحقيقة الواحدة، والوجود والوعي أو الروح، والنعيم اللانهائي هو أنا وأنت وهي وهذا وذلك وكل شيء. هذا الوجود اللاثنائي، النعيم الذي لا يتغير، الموجود وراء الزمان والمكان هو أنت أيضاً. أنت لن تصبح ذاك في المستقبل، أو عندما تجلس لعمل أي شيء ما، أو عندما تموت. أنت كما تشعر بروحك الآن وهنا وفي كل وقت وزمن. هذه هي طبيعتك وطبيعة الوجود الأبدية.

من الواضح أنه من الصعب على العقل البشري غير المهيأ أو المدرب الوصول إلى هذه الحقيقة. لأنه لإدراكها يجب الذهاب إلى ما وراء العقل والتفكير الاعتيادي. الوحدانية تجمع المتشابهات والمتناقضات في جوهر واحد. ويقارن الدارسون لهذه الفكرة وصعوبة إدراكها بأن العين لا تستطيع أن ترى نفسها. أنت لا تستطيع أن ترى نفسك إلا إذا نظرت في المرآة. كذلك فإن السكين لا تستطيع أن تقطع نفسها. والوضع يشبه الأسماك في البحر، فهي بداخل وحدانية الماء ولا تستطيع أن تدرك أي عالم يوجد خارج الماء الذي تعيش فيه حيث أنها لم تجربه أو تعشه.

أنا هو 

ثم تقدم هذه الفلسفة العبارة الأكثر تحدياً للعقل والمنطق وهي عبارة: أنا هو، I am That، أي أنا هو الأوحد. وهذه المقولة تذكرنا بالطبع بمقولة الحلاج: أنا الحق.

المنطق العقلي دون شك يرفض ذلك، غير أن نصوص الفيدانتا في الأوبانيشاد ترى أنك وكل الموجودات والكون شيء واحد. هذا الوعي والوجود هو روح واحدة، وهذه الروح هي مشاهد ومراقب WITNESS لكل فكرة من أفكارك. الوعي هو المراقب لك أنت بما فيك من اسم، وأشياء تملكها وتشعر بها. هي أمور يمكنك أن تراقبها أمامك، هناك شيء ما فيك يمكنه أنه يراقب كل هذا.
من هذا الذي يراقب؟ تلك أشياء وأفكار وأحاسيس تظهر لك. تظهر لهذا الوعي المُراقب والذي يشاهد كل شيء هو الأوحد، وهو الموجود الدائم.

ما الدليل؟  

تقول هذه الفلسفة إنه لا يمكن لفكرة ما أن تظهر إن لم يكن هناك من يكوِّنها ويشاهدها أو يراقبها. لنراقب الأفكار، لنرى الحالة التي تحدث بين فكرتين. تظهر الفكرة الأولى، وتمر، ثم هناك مساحة خالية دون أفكار حتى وإن كانت برهة قصيرة، بعدها تأتي فكرة ثانية لتظهر. السؤال هنا: أين يذهب المراقب والمشاهد في المساحة الفارغة بين فكرتين. إنه لا يذهب إلى أي مكان، هو موجود. جاءت الفكرة وذهبت وبقى الشاهد موجوداً.
إذن أنت في جوهرك هو الروح الواعية بهذه الأفكار ولست الأفكار أو حتى العقل الذي ينتجها. روحك تستطيع تغيير أفكارك أي تستطيع تغيير مضمون عقلك وبالتالي أنت كروح من تمتلك هذا العقل. أي شيء يحدث للأحاسيس أو الأفكار لا يؤثر في المراقب والمشاهد. فهي تتغير ويبقى هو كما هو.
كل الموجودات وتلك الأحداث التي تحدث أمامنا في الزمن تتغير إلا أن الوعي المراقب أو الوعي الموجود فينا لا يتغير بتغير الزمان ولا المكان ولا الأحداث. 

ما هو هذا الوعي؟ ماهي هذه الروح؟ تجيب هذه الفلسفة، كما تجيب كل الفلسفات التي تؤمن بالوحدانية، أنه ليس لهذه الروح شكل أو لون أو طبيعة. إنها طاقة لا يمكن تعريفها بالكلمات، وهي أكبر بكثير من قدرة العقل البشري على أن يفهم كنهها. هذا الواحد يحتوي الأسماء والأشكال ولا تحتويه.
إلا أنه من خلال المراقبة والتأمل يمكن للإنسان أن يشعر بهذه الطاقة من خلال بصيرته وحدسه وليس من خلال بصره وعقله.  

                             «الفيدانتا» ليست ديانة

ما تتحدث عنه فلسفة الفيدانتا من الحقيقة الواحدة التي ليس لها ثانٍ، هو تفسير جاء في نصوص الأوبانيشاد وليست ديناً رسمياً. وهي ليست الديانة الهندوسية كما يفهم خطأ. التدين الهندوسي جاء بعد ذلك وتم استخدامه كمعتقدات وأيديولوجيات وعبادات وطقوس متعددة لا حصر لها.   
هذه الفلسفة لا تعتمد على الإيمان بها كدين منزل، له شريعة محددة يجب الالتزام بها. إنها مجموعة أفكار فلسفية تركز على التجربة، ويمكن للإنسان تجربتها. والسبب، كما يقولون، لأن ما تتحدث عنه موجود لدى كل شخص مهما كان دينه أو ثقافته أو لغته. 
يطالب أصحاب الفيدانتا بالنظر إليها من منظور شخصي تجريبي. على الفرد أن يتعرف إليها من خلال تجربته الشخصية وليس من خلال الفلسفة والكتب. أنت لن تستطيع أن تقتنع بفكرة الوحدانية حتى تجرب الأمر بنفسك. والتجربة بالنسبة لهم تتم من خلال التأمل العميق والدخول إلى عالمك الداخلي وطرح سؤال: من أنا؟
من خلال التأمل تأتي الإجابة للمتأمل: وهي أنك روح ووعي أكبر من الجسد والعقل والأحاسيس.

                               التحول نحو الداخل

لإدراك هذا الوعي المراقب علينا الاتصال به والبقاء معه. نحن ننشغل دوماً بالعالم من حولنا. حين يكون عقلنا مشغولاً بأشياء العالم فإن المراقب والشاهد بداخلنا غير ظاهر وبعيد ويكاد يكون غير موجود.

حين نقوم بتحويل تفكيرنا من العالم الخارجي إلى عالمنا الداخلي، عندما تصمت الأفكار ويصبح الدماغ صافياً، نتصل وندرك ذاتنا الحقيقية. توجيه العقل للتأمل الداخلي يجعله قادراً على تلقي إشارات الروح العميقة، لأن العقل في حالة التفكير في أشياء العالم الخارجية هو في حال متغيرة ومتبدلة لأن العالم متغير ومتبدل. هذا العقل، من الصباح إلى المساء، يقفز من فكرة إلى أخرى، من التفكير في العمل وفي الأسرة، إلى الطقس والمال والسياسة وغيرها. كل هذه الأمور متغيرة ومتبدلة ولا تبقى على حال. حين يتجه العقل إلى وعينا الداخلي الذي لا يتغير ولا يتبدل فإنه يصبح متخلصاً من التبدل والتغير. إنه يتصل بالسكون والسلام والسعادة الدائمة.  
الرحلة نحو الروح كما ترى الفيدانتا لا تكمن في العبادة نفسها أو التأمل نفسه بل في قدرتنا على تغيير دفة تفكيرنا وعقلنا من الخارج إلى الكائن الداخلي أو Inner Being. في داخلنا يمكن لنا إدراك هذه الحقيقة عن أنفسنا. نحن في الجوهر هذه الروح أو الوعي الداخلي. حين تدرك ببصيرتك وحدسك الداخلي أنك هو I am That، ستكتشف الحقيقة الباقية والأبدية كما تقول نصوص الأوبانيشاد أو الفيدانتا. الأشخاص الذين يدركوك هذه الحقيقة هم الذين لا يبحثون عن السعادة في العالم الخارجي بل في عالمهم الداخلي، حيث الجوهر الذي لا تتغير ولا تتبدل.

تقول المصادر أن المعرفة المتضمنة في الفيدانتا مكتملة ولكن يمكن أن تكون صعبة للفهم من الإنسان العادي. يؤكد معلمو هذه الفلسفة ضرورة رفع درجة الوعي الإنساني بروحه الداخلية. هذا يتم من خلال توسيع الرؤية وتدريب البصيرة على إدراك حقيقة الوجود من خلال إدراك الروح التي بداخلنا.
هذه الروح ليست بداخلنا فقط وإنما هي موجودة في كل زمان ومكان وكل شيء، وعلينا فقط استيعاب طاقتها الكونية الشاملة والاتصال بها دوما من خلال المراقبة الدائمة. قلما نجد فلسفة في تاريخ الفكر البشرى تحدثت عن الوحدانية أو فسرتها كما فسَّرتها الفيدانتا. وقد رفضتها وانكرتها العديد من مدارس الفكر الهندوسي إلا أنها استمرت وتوسعت. وهي ليست فلسفة ميتة وإنما حيّة منذ القرن الثامن قبل الميلاد، وهناك الملايين ممن يدرسونها ويؤمنون بها حتى اليوم.  

                                 انتشار وعلاج

هناك اليوم شعبية واسعة لأفكار هذه المدرسة الفلسفية (الفيدانتا) ومثيلاتها في البوذية والتاوية وفلسفة الزن، خاصة في أوروبا والولايات المتحدة. إننا نجد ذلك بوضوح في انتشار علوم التأمل والتركيز الذهني والتطوير الذاتي ومراكز التدريب الروحي والعلاج بالطاقة، وغيرها.

هذه الممارسات ارتبطت بانتشار الفكر الروحاني الشرقي على وجه العموم، والهندي على وجه الخصوص منذ نهاية القرن التاسع، واستمرت خلال القرن العشرين، مع ظهور الترجمات للنصوص القديمة فيها، واهتمام العديد من الفلاسفة والكتاب الغربيين، ممن قاموا بالترجمة والكتابة، ثم ظهرت التخصصات الجامعية، وأقسام الفلسفة الشرقية في الجامعات الأوروبية والأميركية.
-----------------------------------------------------------
(نشرت في صحيفة الإتحاد - الخميس 14 ديسمبر 2017 

كتاب الحكمة الصيني الأشهر التاو: التوازن في عالم الألف شيء



                                                                 ترجمة وإعداد: خالد البدور

«التاو الذي يمكن التحدث عنه
ليس هو التاو اللامتناهي أو الأبدي
والاسم الذي يمكن إطلاقه عليه
ليس اسم ذاكَ اللامتناهي الأبدي
الذي لا يُسمى هو أصل السماء والأرض
الذي لا يُسمى هو أم لكل الأشياء».



حين ظهرت الترجمات العربية الأولى لكتاب (التاو - TAO) لم تستطع معظمها مساعدة القارئ على فهم المعاني الجوهرية لهذه الفلسفة، خاصة أن بعض تلك الترجمات قد خلت من مقدمات أو شروحات وافية للفلسفة والحكمة التي ينطلق منها هذا الكتاب المهم.

من يطّلع على ترجمات الكتاب في اللغات الأخرى سيشعر كم أن المكتبة العربية الموجهة للقارئ العادي وليس المتخصص في الفلسفة، محدودة وربما متجاهلة لهذا الفكر الإنساني المتجاوز لزمنه رغم قدمه.

يحيط باسم التاو الكثير من الغموض، إذ ليس له مرجعية لغوية معينة. إلا أن المفسرين اتفقوا على بضعة معانٍ ودلالات في اللغة الصينية القديمة والمعاصرة.

                                          مؤلف التاو

تعني التاو حرفياً (الطريق) أو (المسلك). كما تعني صيرورة أو تدفق الحياة في الكون. ويمكن أن تعني الطاقة أو القدرة الكونية الموجودة في الكون، والموجودة كذلك بداخلنا.
ظهرت الأفكار التاّوية على يد المفكر الصيني لاو تزو Lau Tzu الذي عاش ما بين القرن الخامس والسادس قبل الميلاد، ووضع كتاباً يتضمن تعاليمه وأفكاره وسماه التاو The Tao.

واسم المفكر لاو تزو هذا نفسه تدور حوله تفسيرات عدة. فكلمة (لاو) تعني الشيخ المتقدم في السن. و(تزو) تعني الأستاذ أو المعلم. بهذا يمكن القول إن اسمه يعني الشيخ المعلم.

يورد مصدر آخر أن اسمه الحقيقي لي إره Li Erh الذي ولد وعاش في ولاية تشو Chu الصينية قبل 551 قبل الميلاد، ما يعني أنه عاش في فترة أقدم قليلاً من الفترة التي عاش فيها كونفوشيوس.

يُعتقد أن لاو تزو عاش معظم حياته في بلاط الحكم للعائلة التي حكمت مقاطعة تشو. إلا أنه شعر مع الوقت بأن الناس لم تعد تهتم بأفكاره. ومع اندلاع بعض النزاعات الدموية في المقاطعة التي كان يقطنها، وملاحظته لعدم اهتمام السلطة الحاكمة بإيقافها، فقد قرر الرحيل عن المقاطعة والعيش منعزلاً في البرية.

تذهب الحكاية المروية عن حياته إلى أن المسؤول في بلاط الحكم الذي كان معجباً بفكره، لم يوافق على السماح له بالذهاب قبل أن يُدوّن له كل تعاليمه. وهكذا وافق لاو تزو وجلس ليكتب التاو في جلسة واحدة. بعد أن فرغ منه سلمه لمسؤول البلاط وغادر المقاطعة دون أن يُخبر أحداً بوجهته، ولهذا لم يُعرَف عنه أي شيء بعد ذلك.

يمكن اعتبار هذا الكتاب الذي حوى 81 فقرة، مصدر أحد أهم الفلسفات في الصين وبلدان الشرق. ومع أنه كتاب حكمة، فقد ولدت منه مع الوقت التاوية، وتطورت كديانة تقدم تفسيراً لعلاقة الإنسان بالوجود ودوره في الحياة، وأيضاً السبل التي عليه أن يسلكها إذا ما أراد تحقيق غاياته وأهدافه.

بهذا فالكتاب، الصغير في حجمه، ليس نصاً مقدساً يبشر بمذهب أو عقيدة أو دين، بل خلاصة فكر رجل حكيمٍ ذي نظرة ثاقبة، وحصيلة تجربة إنسان خبِر الحياة وأسرارها وقدم نصائحه في أسلوب سلس ومبسط لجميع القراء.

وبخلاف النصوص الدينية التقليدية، يحتوي التاو على تفسيرات وإجابات مبسطة وذكية تصلح لحياة الإنسان اليومية في كل زمان ومكان، ويمكن للإنسان العادي، من خلال القراءة المتأنية، استيعاب المبادئ والنصائح وتطبيقها.

                                    الذي لا يمكن معرفته

بالعودة إلى المعاني المتعددة لكلمة التاو والتفسيرات المحتملة لها، فقد اختلفت وتشعبت. يؤكد لاو تزو نفسه في بداية كتابه على أنه لا يمكن إطلاق اسم محدد أو تعريف واحد يعكس المعاني والتفاسير المختلفة للتاو، ولكن في الوقت ذاته يمكن استخدام كلمة التاو للدلالة عليه. يقول في أول نص في الكتاب، أن التاو الذي يمكن تفسيره ليس هو التاو الأبدي أو الأزلي والاسم الذي يمكن تسميته ليس هو الاسم الأزلي. فالتاو، إذن، هو الاثنان معاً (الذي يمكن تسميته) والذي (لا يمكن تسميته) وقد يبدو هذا تناقضاً، ولكنه في التحليل العميق شيء واحد.

إن ما لا يمكن لنا (معرفته) له مستوى إدراكي آخر. وفي الوقت نفسه يمكن لنا (تسميته) و (رؤيته) في (كل) شيء. عندما نرغب في رؤية هذا (الغامض) أو الذي (لا يمكن) معرفته، فالوسيلة الوحيدة المتوافرة لنا هي هذا العالم الفيزيائي الذي يمكن لنا إدراكه.

لكن عالمنا المادي الذي يسميه لاو تزو (عالم الألف شيء) هو عالم المظهر الفيزيائي. عندما نترك (رغبتنا) في رؤية أو إدراك (التاو) من خلال حواسنا المحدودة وإدراكنا المحدود سيمكن لنا بالفعل (رؤيته).

ولكن كيف لنا أن نقوم بذلك؟

إن هذه (الرغبة) هي تعبير فيزيولوجي لخلق حالة تؤهلنا لنكون (مُتَلقين)، وعلى استعداد لهذا التلقي. وتبعاً لما يقوله لاو تزو، فإن رغبتنا في أن نعرف أو نرى هذا (الغامض) سوف تؤدي بنا لرؤية براهين متعددة له، ولكن ليس رؤيته (هو) بذاته لأنه لا يمكن رؤيته من خلال حواسِّنا البشرية.

قد يحاج الذين لا يؤمنون بمثل هذا الفكر أن ما (لا نراه) غير موجود. إلا أن هذه الحجة ضعيفة جداً. فهل يمكن لنا أن نرى ذبذبات الصوت؟ أو التيار الكهربائي؟ أو الأشعة التي تنطلق من جهاز التحكم الآلي (الريموت كونترول)؟

لا يمكن لنا رؤية هذه الأشعة أو الطاقات، ولكننا نعرف عندما نجيب عن رنين الهاتف المتحرك أن الصوت الآتي لنا من سماعة الهاتف صوت (موجود). ونعرف عندما نضغط على زر المصباح الكهربائي ويظهر النور أن الكهرباء (موجودة).

كذلك الحال عندما نضغط على جهاز التحكم الآلي بمحطات التلفزيون. إننا لا نرى الصوت ولا الكهرباء ولا أشعة جهاز التحكم ولكننا نرى (مظاهر) هذه الأشياء في المستوى المادي أو الفيزيائي. بهذا المعنى، فإن الرغبة في (رؤية) التاو ستؤدي بنا لرؤية تمثلات أو مظاهر (التاو) في الوجود.

على الجانب الآخر، فإن عدم الرغبة بالإدراك المادي ستؤدي بنا إلى إدراك (جوهر) التاو أو (اللا محسوس) أو (الذي لا يمكن تسميته). يتم هذا فقط من خلال الحدس أو الفطرة، وهذا بحد ذاته أعمق بكثير وأكثر اتساعاً من (المعرفة العقلية-الحسية-البشرية).

ونحن أيضاً لسنا الأشياء الظاهرة منا مثل الجلد الذي يغطينا أو الدم الذي يجري في أوردتنا أو العظام التي تستقيم بفضلها أجسادنا وغيرها من علامات وجودنا الفيزيائي، بل نحن كذلك روح ذلك (الأبدي)، فهو وبشكل غير مرئي يُحرك ألسنتنا فيجعلنا نتكلم، وهو الذي يجعل آذاننا تسمع، وأعيننا ترى، وبهذا نختبر أو نحس أو نشعر بـ (مظاهر) اللا مرئي.

إن (ترك) الرغبة في معرفة اللا مرئي بالشكل المادي الفيزيولوجي تعني (التسليم). يقول التاو علينا معرفة (الطريق)، وهو باب يؤدي بنا إلى فهم وعيش كل شيء في الوجود. بهذا الاعتبار علينا أن (نتوقف) عن المحاولات المستميتة لنعرف التاو أو جوهر الوجود، وهي قوة السماء حسب لاو تزو، أو الروح الكونية أو النظام الأعظم حسب الهندوسية والبوذية.

                                     الطريق إلى السلام

من الواضح أن التاو قد كُتب لرجال الحكم في تلك المقاطعة الصينية. من خلال نصوص التاو، يظهر كيف أن التاو وثيقة فلسفية حول طريقة الحكم الصائبة، وكذلك حول السلوك الأخلاقي الصائب.

وكما حدث لتعاليم كونفوشيوس السياسية التي تحولت إلى ديانة، فإن تعاليم التاو كذلك امتزجت مع تعاليم سابقة، وشكلت ديناً آخر تأسس لاحقاً على يد جانغ تاو لينغ.

وما حدث بالضبط هو أن المعتقدات الدينية الصينية القديمة، خاصة الكونفوشيوسية بدأت تفقد بريقها وفتحت الباب لدخول الأفكار الجديدة، وهكذا ولدت التاوية ثم البوذية التي جاءت من الهند.

حين ننظر إلى الأديان، خاصة السماوية منها، نرى كيف أنها أكدت ثنائية الخير والشر، وحثت أتباعها على البحث والعمل على الخير ورفض الشر. إلا أن التاوية رأت أن هذه الثنائية هي وجهان لعملة واحدة. لا يوجد الخير لوحده ولا يوجد الشر لوحده. كلاهما لابد أن يتعايشا معاً، ولابد للإنسان من أن يعيش في توازن بينهما دون صراع أو تعارض.

يُعبَّر عن هذين النقيضين بـ (الين Yin و اليانغ Yang). هاذان العنصران متلازمان في الطبيعة. الين Yin في الأصل تعني (دون شمس)، كما تعني (شمالي)، وقد ربط هذا العنصر مع الظلام والأنوثة والعدم والبرودة واللا فعل. أما العنصر المقابل فهو اليانغ Yang ويعني في الأصل (مشمس) كما يعني (جنوبي). وقد ربط مع النور والامتلاء والذكورة والحرارة والفعل.

هذا التعارض الظاهر هو على السطح فقط. في الجوهر فإن هذين العنصرين يعتمدان على بعضهما البعض ولا يوجد أحدهما دون وجود الثاني. فكما يعرف النحّات أن الفراغ أو الفضاء أساسي في العمل الفني ومن خلاله تُعرف الكتلة، فإن الممارس التاوي يدرك أن العذاب والشقاء والألم أمور ضرورية لوجود الصحة والمتعة والسعادة.

بالنسبة للتعاليم التاوية، فإن المرض والصحة وجهان لظاهرة واحدة. فالجسد يعاني المرض ويتمتع في أوقات أخرى بالصحة. الذكورة والأنوثة شيء واحد لهما مظهر متعارض من الخارج. الحب والكره كذلك ظاهرة واحدة لها وجهان. حين يدرك التاوي وهم التعارض بين هذين المظهرين، وأن يتقبل هذا التعارض يستطيع أن يعيش في توازن وسلام.

إن من مظاهر دورة الطبيعة أن البندول، على سبيل المثال، يهتز ويتحرك بين أقصى نقطتين في قطبين متعارضين لليمين أو اليسار. إذا رفضنا حركته إلى أقصى اليمين، فإننا لن نحصل على الحركة التي تؤدي بنا إلى أقصى اليسار، والعكس صحيح.

إذا رفض الإنسان أحد الجوانب، فإنه يفقد التوازن والانسجام في حياته. الشيء المهم بالنسبة للتاوي، هو أن يعيش كما تعيش الطبيعة التي تتواءم وتتجاور فيها جميع النقائض مثل الظلام والنور والليل والنهار والذكورة والأنوثة، كل هذه المظاهر التي تبدو متفاوتة أو متعارضة، توجد وتحيا في انسجام وتوازن.

هذه باختصار أهم ركيزة للفكر التاوي، وهناك العديد من الأفكار الفلسفية الأخرى التي تتعلق بالحياة والعمل والعلاقات مع الآخرين، لهذا فإن قراءة وتحليل كتاب التاو أمر مهم لكل طالب علم أو معرفة أو حكمة.

                                       انسجام النقائض

إن من مظاهر دورة الطبيعة أن البندول، على سبيل المثال، يهتز ويتحرك بين أقصى نقطتين في قطبين متعارضين لليمين أو اليسار. إذا رفضنا حركته إلى أقصى اليمين، فإننا لن نحصل على الحركة التي تؤدي بنا إلى أقصى اليسار، والعكس صحيح.

إذا رفض الإنسان أحد الجوانب، فإنه يفقد التوازن والانسجام في حياته. الشيء المهم بالنسبة للتاوي، هو أن يعيش كما تعيش الطبيعة التي تتواءم وتتجاور فيها جميع النقائض مثل الظلام والنور والليل والنهار والذكورة والأنوثة، كل هذه المظاهر التي تبدو متفاوتة أو متعارضة، توجد وتحيا في انسجام وتوازن.
هكذا نراه!
عندما نرغب في رؤية هذا «الغامض» أو الذي «لا يمكن» معرفته، فالوسيلة الوحيدة المتوافرة لنا هي هذا العالم الفيزيائي الذي يمكن لنا إدراكه.


لكن عالمنا المادي الذي يسميه لاو تزو «عالم الألف شيء» هو عالم المظهر الفيزيائي. عندما نترك «رغبتنا» في رؤية أو إدراك «التاو» من خلال حواسنا المحدودة وإدراكنا المحدود، سيمكن لنا بالفعل «رؤيته».

  شعر ميري أوليفر : ترياق لتجاوزات الحضارة ترجمة - خالد البدور فقد الشعر الأميركي   عام  2019  ميري أوليفر، أحد الأصوات الشعرية ...