الأربعاء، 19 يونيو 2019

راشد بن دلموك وهديته الثمينة


الزمان نهاية الستينات أما المكان فهو حي المرر في ديرة (بالقرب من برج نهار حاليا) كنت حينها أقارب العاشرة من العمر. لقد تغيرت ملامح تلك المنطقة اليوم, إلا ان ملامح صورة هذا الرجل مازالت واضحة المعالم في ذاكرتي. شيخ جليل له وجه حفرت فيه الأيام آثارها, وحضور مهيب ومؤثر في كل من يجتمع به. 
   في تلك السنوات كان جليس الفراش, يعاني ضعف البصر وتقدم السنوات, بيد انه كان يشع فطنة ومهابة, يعرف الرجال بمجرد إقترابهم منه, فيرحب بزواره ببشاشة وسرور. 
    كان يقضي نهاره جالسا متأملا شجرة كبيرة في وسط الدار, مرددا بينه وبين نفسه أشعاره, لعلها تعين على تحمل السنوات الاخيرة من العمر, اوتخفف وطئة الوحدة حين ينطلق الجميع الى اعمالهم في الصباح ويبقى هو منتظرا عودتهم. 
    جمعتني به اواصر قرابة ونسب حيث كان متزوجا من عمتي, وكنت أرافق والدي الى ديره حيث يتابع أعماله هناك, وفي وقت الظهيرة كنا نذهب لتناول طعام الغداء في بيت شقيقة والدي, حيث نلتقي به. لم يكن يتحدث كثيرا, يسأل عن الاحوال بعبارة أو عبارتين ثم يعود إلى صمته منصتا لما يدور من أحاديث. 
  بعد الغداء ومع فناجين الشاي يمكن ان أن تخرج منه حكاية أو موقف حدث له, أو يأتي ببعض الاشعار التي يحفظ منها الكثير. كان الجميع يصمت, وكنت أنتظر حديثه بشغف لأنه غني بالحكمة والشعر والادب. 
           هو راشد بن محمد بن أحمد بن دلموك, ولقد ذاع صيت والده  وجده من آل دلموك بسبب كرمهم وشجاعتهم. وقد أنشد فيهم الشاعر بن شيخان العماني صاحب قصيدة (حب الغواني) الشهيرة, قصيدة يقول في بعض أبياتها: 

وإن اقتحامي للشدائد والقلا          لَيَسهُلُ في لُقيا الكريم (محمد) 
فتى شأنه إحسان سالك سيرةٍ        لوالده غوث المساكين (احمد) 
فتى يهب الأموال من غير كلفة    ويستنجز الآمال من غير موعد 
هوالبطل الكرّارفي حومة الوغى إذا فرّت الأقران من هول مشهدِ 
فيا آل(دلموك) لكم ذورة العلا    وطلتُم على الأحيا بفضلٍ وسؤددِ   
   كان راشد بن دلموك شاعرا بالفطرة, يقوله في العديد من المناسبات, باثا شكوى لصديق او مفرجا عن هم يكابده بينه وبين نفسه في صور غنية وسبك يفصح عن مهارة وخبرة. 
  
وصف الشاعر حمد بوشهاب في كتابه المعروف (تراثنا من الشعر الشعبي) راشد بن محمد بن دلموك, بأنه شاعر الحب والغزل, واورد له قصيدة يقول في بعض أبياتها: 
  
       لايا سعيد  مابعد   قيد      قلبٍ على الخفرات مرتاح   
       يطعم لذيذ الزاد ويحيد      وين إيهنيه النوم لي  طاح 
       قفر الحشا  مابه  تِلديد      ماقزّر  الليلات    بصياح 
       ياويلي  الله  يابن سعيد     قلب  الصديّق يا لّخو راح  
  
     رافق شاعرنا الشاعر راشد بن حريز والشاعر محمد بن سوقات, الذي كان يجالسه في آخر حياته, ويدون عنه قصائده التي يرويها شفاهة. كما رافق الشيخ مانع بن راشد, حيث كان بيت آل دلموك يبعد خطوات قليلة من بيت الشيخ مانع. 
  
    عاش بن دلموك في أكثر من منطقة, حيث قضى طفولته وشبابه في منطقة الراس, وفي الأربعينات, إنتقل الى الشارقة عندما نزحت اليها بعض عائلات دبي المعروفة, ثم عادت العائلة الى دبي, وعاش في حي المرر, وأنتقل في سنواته الاخيرة إلى حي ام سقيم بالجميرا, حيث ابتنى ابنه احمد بيتا في بداية السبعينات وبقي فيه حتى توفي منتصف السبعينات.   

شهد  بن دلموك في عز شبابه, في الثلاثينات والاربعينات, إزدهار دبي ونموها بفعل تجارة اللؤلؤ, وانتشار الاعمال الاخرى المحيطة بهذه المهنة, كالتصدير والاستيراد وبناء السفن, وورود التجّار وطلبة الرزق الى المدينة للتجارة والعمل. 
   إمتلك والده محمد بن دلموك, سفنا تحمل الرجال الى مغاصات هذا الدر الثمين, وبعد أشهر من العمل تعود, ويبدأ الاستعداد لعمل آخر هو التجارة مع الهند وساحل شرق إفريقيا. 
   أصبح راشد بن دلموك من تجار دبي الذين عملوا في تجارة اللؤلؤ, حيث كان يرحل الى بومبي في كل موسم ليمارس مهنته, بالاضافة الى إدارته لبعض العقارات والاراضي التابعة لآل دلموك. 
    وفي وسط كل هذه الاعمال, كان شاعرا يشهد له الكثيرون ببعض أجمل القصائد التي قيلت في منتصف هذا القرن, وبالرغم من انه كان يعد فارسا ومحاربا شجاعا, إلا ان شعره الغزلي تميز بالعذوبة والرومانسية, بل وأحيانا بالمبالغة في التصوير الشعري, كتلك القصيدة التي يقول فيها: 

ناسٍ سرت تبغي  التراويح           وأنا سريت آنادم الخل   
ناسٍ   تسبّح     بالمسابيح           وأنا  أسبّح     بالميدّل   
  
   وبالرغم من انني كنت اجلس لأوقات طويله معه في بيت عمتي إلا انني لم أكن أعرف الكثير عن تاريخه وانجازاته بسبب صغر سني. وبعد أن كبرت قليلا أخبرني والدي عنه. كان راشد بن دلموك أحد الرجال المعروفين بمواقفهم الشجاعة, ينتصر للحق ويدافع عنه أمام الباطل. عرف عنه إجادته للفروسيه والرماية, وكان يعتلي ظهر حصان أبيض اللون متمنطقا خنجره, واضعا وشاحا من (اللاس) على كتفيه. قيل انه عندما كان يمر فإن الرجال يشيرون إليه بالبنان قائلين : إنظروا ...جاء راشد بن دلموك. وبسبب من وسامته وهيبته كان عندما يعبر بين الازقة والبيوت, تتلصص عليه عيون الصبايا والنساء من وراء النوافذ والابواب. 
    كما أجاد العديد من الاعمال ومنها صنع الخناجر حيث كان يبدع في صناعتها وزخرفتها بالذهب والفضة, ولم يكن ذلك لغرض البيع بقدر ما كان هواية ورثها عن أسلافه. 
    ولقد أطلعني السيد عبدالله بن حمدان بن دلموك على خنجر قديم مذهب ومحلى بالفضة كان يستخدمه راشد بن دلموك, وكان راشد قد ورثه عن والده الذي ورثه بدوره عن جده, ونقش عليه تاريخ صنعه الذي يعود الى ماقبل 160 عاما من اليوم.    
    عرف عن والده الكرم والنخوة, فكانت الموائد مفتوحة للجميع, وفي أيام الاحتفالات والاعياد كان ذلك البيت حافلا بالضيوف والرجال يأتون من كل مكان للسلام والتحية.يقول فيه الشاعر بن شيخان العماني مادحا: 
  
فتىً ينفق الأموال للأجر والثنا    ويرجو بها فك الأسير المقيد 
يلُمُّ   به  من  أغلقتهُ    ديونه    فما سار إلا بالخلاص المؤكد 
    
    لقد تشرّب راشد بن دلموك تلك الصفات من والده, وأهتم بالادب والشعر, لأن والده كان ينفق في سبيل العلم والمعرفة. كان العلماء يفدون اليهم فيتحول المجلس الى دار علم وتفقه, ولم يبخل بالنعمة فأجزل العطاء للفقهاء والعلماء مما كان له الاثر في انتشار التعليم في تلك السنين. لهذا جالس إبنه راشد بن محمد, أولئك الرجال وتعلم على ايديهم الادب والمعرفة وأصبح شاعرا معروفا وخبيرا بالحياة وبالشعر, يقول : 
  
      بَزغَت قمر متطاله الايد       كشح  هضيم  وقايد ارواح 
      ناس لهم من قايد الصيد       جيد  ومدامع  موق   ذِبّاح  
      آون   وتويع  وش ايفيد       دمعي  على لأوجان سفاح 
      شروى   توييع  المفاريد     لي عاد هن في القفر   نشاح 
      موقي  تفطر  والله شهيد     لا اهيَع ولا أغضّي ولا ارتاح 
  
     كنت, وبالرغم من فارق السن, أحب مجالسة بن دلموك, وكان يأنس إليّ لأنني كنت أجلس صامتاً مستمعا بعناية كأنني في حضرة معلم جليل, يشدك باسلوبه الممتع والشيق. كان يتصف بذاكرة غنية بالحكايات والقصص والنوادر, ومع كل حكاية يسرد قصيدة لشاعر معروف او يخبرك عن مثل شعبي أو لغز, ليؤكد على مغزى الحكاية والحكمة من سردها. 
    وذات يوم كنت مع القدر على موعد. فقبل وفاته بسنوات قليله, كنت أجلس معه, ولم يكن هناك أحد في المجلس. أشار علي أن أقترب منه, ثم إستدار الى الخلف, وأخرج من تحت فراشه كتابا مطويا بعنايه, قديم الصفحات, ثم قال: 
سأهديك هدية, قد لاتعرف قيمتها الآن, ولكن إياك أن تفقدها. هذا الكتاب لايقدر بمال, قد لاتعرف معانيه الآن, ولكنك ستحتاجه عندما تكبر, لقد حافظت عليه منذ سنين طويلة. هل ستحافظ عليه من بعدي ؟ 
قلت متلعثما: ... نعم. 
نظر الي بنظرة جادة وبعد تفكّر قال خذه إذن, وأحفظه في مكان آمن وتعلم مما جاء فيه, إنه يحمل كل ماتحتاجه في حياتك من توجيه وارشاد ومعرفة. 
   رحم الله راشد بن محمد بن دلموك, كان ذلك الكتاب إحدى الطبعات القديمة والنادرة لديوان الماجدي بن ظاهر, وكانت تلك الهدية من أثمن ماتلقيت في حياتي.    

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

  شعر ميري أوليفر : ترياق لتجاوزات الحضارة ترجمة - خالد البدور فقد الشعر الأميركي   عام  2019  ميري أوليفر، أحد الأصوات الشعرية ...