الأربعاء، 19 يونيو 2019

الطفل يستيقظ






قُرأ هذا النص في احتفالية بمناسبة مرور 400 عام على وفاة الشاعر والمسرحي الكبير ويليام شكسبير ضمن فعاليات مهرجان طيران الإمارات للآداب الذي أقيم في الفترة ما بين 9  إلى 12  مارس 2016

النص يستوحي السوناته الأولى والثانية من سوناتات شكسبير.



استهلال

كان لقائي الأول بالنص الشكسبيري في مرحلة الدراسة الثانوية من خلال مسرحية "تاجر البندقية". وفي منتصف الثمانينات شاركت في ورشة تدريب مسرحية جرت في الشارقة، وإحدى المسرحيات التي تدربنا عليها في تلك الورشة كانت مسرحية "الملك لير"، وقمت بالتدرب على أداء دور شخصية إدموند. بعد سنوات شاهدت فيلم "ران" للمخرج الياباني أكيرا كيروساوا الذي استوحاه من مسرحية "الملك لير". كان فيلما مؤثراً إلى درجة شعوري بالرغبة في البكاء. ابتلعت ريقي بصمت في داخلي محاولاً إخفاء مشاعري عمن هم بقربي في القاعة. في تلك الليلة كتبت قصيدة عن ذلك التأثر نُشرت في مجموعتي الشعرية الأولى عام 1992.

وبعد مدة، قرأت سونيتات شكسبير مترجمة الى العربية. تكشف السونيتات للقارئ جوانب أخرى من الأدب الشكسبيري لم نجدها تظهر بوضوح في تراجيدياته الكبرى.  

حينَ طُلب مني المشاركة في هذه الندوة عدت إلى ملاحظاتي التي كتبتها عن السونيتات. وقد توقفت عند الجزء الأول من السونيتات -من سوناته 1 إلى سوناته 17,- وفيها يتحدث شكسبير إلى صديقه الشاب ويحثه على ضرورة الزواج وإنجاب طفل.
يكشف لنا الكاتب العظيم كيف أن صديقه الشاب يُعرض عن الزواج مختزناً بذرة استمرار الحياة في داخله. إن الأطفال هم الجمال المتجدد الذي يولد في العالم ويحمل جمال الأب والأم. يرى شكسبير أن هذا هو سبب وجودنا. أن يستمر جنسُنا البشري بكل ما فيه من ثراء وجمال ومتعة في هذا الوجود وذلك من خلال ما نخلفه من أطفال. إنهم وقود الحياة المتجدد.

مع السوناته الثانية لشكسبير ذهبت أتأمل هذا الطفل الذي سوف يولد، وتساءلت: ماذا لو أن هذا الطفل، وهو حلم شكسبير، الذي يمثّل الجمال وسبب بقاء وجودنا، يأتي، لكنه يعيش اغتراباً في زمنه، يعيش مآسي هذا العصر.

ألا يحدُث هذا حين نهجر عالم الطفولة ونلج عالم الكبار؟ إنه عالم يضج بالضجيج، والتحديات، والصراعات والسلوكيات التدميرية. كل ما تمثله الطفولة من حب وسلام وعاطفة تُستبدل بالجشع، والكره، والحرب، والموت.

يبدو كما لو أن صوت شكسبير المتفائل بالجمال والحب ليس له موضعاً في عالمنا المعاصر، حيث يسقط الإنسان تحت عجلات عالم شرس وقاسٍ.

حين نكبر نبتعد ونغترب عن الطفل الذي بداخلنا. نرتدي أقنعة مزيفة مدّعين أننا نحاول أن نتقدم ونعيش حياة أفضل والحقيقة أننا نعيش حياة خالية من الحب، خالية من الحياة.


الطفل يستيقظ


في عالمٍ بلا أبواب وُلِدتُ
كل جهة من الجهات الأربع تشير إلى اللانهائي.
جهة الشمال الشرقي خط أفقٍ لامتناهي،
ولا شيء خلف البحر.

صغيراً، سألتُ: لو وصلتُ الأفقَ، هل سأسقط خلفه؟
في أحد أحلام الطفولة وقفتُ فوقَ جرفٍ شاهقٍ، ذات يومٍ عاصف
حيث كانت تتلاطم تحتي أمواجٌ هائلةٌ تضرب الصخور بعنفٍ،
ثم هَوَيتُ.

حين كبِرتُ، كما فعلَ الجميع. هجرتُ الطفل الذي في داخلي.
تركته قابعاً هناك في غرفة الذاكرة المظلمة ومضيت.
ذهبت للدراسة، اتخذتُ عملاً، تزوجتُ، وصار لدي أطفال. ولكن… بالرغم من كل ذلك. لاأزال اسمع صوت الطفل الذي هجرته ينادي: لى أين تذهب؟ ها أنا هنا، لازلتُ في داخلك، لكنك لا تراني، لا تسمعني…أنا هو أنت. وأنتَ أنا. أنتَ، وكل مَن حولك، تلبسون أقنعة الكبار، ولا تعلمون من أنت، لماذا أنتم.

تغربتم كثيراً عن أرواحكم، ويا للأسف، قلةٌ منكم من يدرك هذه الحقيقة.



1

أنتَ
هُوَ
أنتَ مَن
تبحثُ عَنْهُ.


2

في الضوء الشاحب لقمرِ نَيسانَ
حين يتحول الفجر بارد إلى شمس
وقتَ وُلدتَ
تسلَّلَ طيفٌ منكَ، أو كانت هي روحك،
ذهبَت
كي تتدفأ تحت فيء النخيل
نخيلٍ بدَت كرؤوس نساءٍ
يقفنَ هناكَ منذُ قرونِ
وذهبتَ أنتَ
لتكبُر.


3

البيتُ الذي هجرتُهُ
الروحُ التي نسيتُها في الثالثةِ من العمر
وقتَ منحوني اسماً ليس لي
وقالوا: هذا أنتَ
أراكَ الآن.
هذا أنت
تعودُ اليومَ.

4

طويلاً كان دربُكَ
بصحارٍ وبحارٍ مررتُ
بسنينَ مظلمةٍ، غاضبةٍ وحميميةٍ
لليالٍ غائمةٍ، لا نهائيةٍ
و نهاراتٍ بشموسٍ حارقةٍ
ساعاتُ موتٍ
بعدَ هذا الطريقِ الطويلِ 
وجدْتُهُ.

 5

البابُ طرقته حين في الثالثة من العمر
وها هو بعدَ خمسينَ عامٍ
يُفتح
يستيقظُ الطِّفل،
يتقلَّبُ، قبل الكلامِ، في لِذَّةٍ
يمُدُّ إليكَ كفّيه.

6

في أي أرضٍ تلاشَت خُطاكَ
ولِمَ، بعدَ آلافِ الأيام، لازلتَ ترحلُ
رأيتُكَ تقطع جبالَ السِّنينَ الشاهقة
كم رأيتُكَ تطفو على سطح الأشياء هزيلا.
هائماً في الغابات، أعمى
دونَما دليلٍ
هارباً
أنا
أنا الطفلُ في داخِلك
من يسألُك…

لا عمّا مضى
ولا عمّا سيأتي
بل عن الآن
الآن فقط
فمتى…
تستيقظ؟



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

  شعر ميري أوليفر : ترياق لتجاوزات الحضارة ترجمة - خالد البدور فقد الشعر الأميركي   عام  2019  ميري أوليفر، أحد الأصوات الشعرية ...