الأربعاء، 19 يونيو 2019

البتراء: المدينة الورديه






بالقرب من جبال إربد الخضراء في شمال الأردن أشرقت الشمس ماسحة بلونها الأصفر الهضاب والغابات. افقت فجراً ولأول مرة ربما في حياتي وجدت أنني محاط بأشجار الزيتون، إنها في كل مكان حول الفندق. هذا الصباح سأتخذ طريقي صوب البتراء، عاصمة العرب الأنباط القدماء. 

انطلق السائق " ابو أنس" يشق بسيارته الطريق نحو الجنوب. كنت أفكر في ما ينتظرني من مفاجآت. لكن، أليست المفاجآت هي ما يغري بالسفر والترحال. 
مررنا بعمّان، ثم سلكنا طريقنا عبر الشارع الصحراوي. بعد الأخضر بدأت الأرض تتلون باللون البني، وظهرت السهول المنبسطة. نحن نقترب من الصحراء قلت متفكراً في ما أراه، لم أكد أكمل جملتي حتى ظهرت فجأة وعلى يميني خيام البدو. إنها منتشرة أو قل مبعثرة هنا وهناك، وفيما بينها الأغنام ترعى وبعض الرعاة يقفون بالقرب منها وهم يحدقون في الأفق. 

يجب أن نصل إلى البتراء قبل غروب الشمس، كي نرى الغروب هناك واستطيع تصويره. لون صخور البتراء يكون ساحراً، إذ يصبح وردياً وقت الغروب. لهذا سُميت المدينة الوردية. 

يقول التاريخ أن الأنباط الذين أسسوا البتراء قد استقروا جنوب الأردن قبل أكثر من ألفي عام. وقد سيطروا من محطة القوافل المستترة بين وادي نهر موسى العميق هذه على طرق التجارة في بلاد العرب قديماً. كانوا يفرضون الضرائب ويأوون القوافل العابرة. بعض تلك القوافل حملت سلعاً عديدة ومنها (اللبان) الذي كان يجلب من جنوب أرض عمان و" المر" وقد استخدمت هذه المواد كبخور في المعابد، بالاضافة إلى التوابل والحرائر الهندية والعاج وجلود الحيوانات الافريقية.

تركنا الطريق الصحرواي الذي يواصل في سيره نحو العقبة، وانعطفنا غرباً نحو البتراء. تبقّى من المسافة 50 كلم. قال أبو أنس: " لاحظ كيف تغير لون الصخور. كانت الصخور سوداء والآن هي بنية". 
كانت الأرض مستلقية تحت الشمس، وفي البعيد لاحت الجبال العالية أمام سفوح برتقالية عارية إلا من النباتات البرية التي لا زالت خضراء. أمطار غزيرة هطلت على الأردن هذا الشتاء. أرى خيام البدو، يقول أبو أنس "هؤلاء نبطيون". هذه أغنامهم ترعى في سلام وكأن لا علاقة لهم بما يحدث في الحياة المعاصرة. إنهم يعيشون كما عاش أسلافهم منذ آلاف السنين. 

وصلنا "وادي موسى". هذه أكثر المناطق برودة في الجنوب. عن يميني ويساري أشجار التفاح والعنب والدراق. تم حصاد القمح في شمال الأردن، ولكنه هنا مازال أخضر. توقفنا في الشارع عند بعض البدو، وسألنا كم تبقى من المسافة إلى البتراء. قالوا 27 كلم.

تغير الهواء ونحن في وادي موسى، وأشم أوكسجيناً نقياً. هاهي "عين موسى". تقول القصة أن كليم الله توقف هنا. كان يقود أغنامه العطشى، لهذا ضرب بعصاه الأرض فتفجرت ماءاً. يزور "عين موسى" اليوم المئات من الناس من كل مكان. يحملون منها الماء، الذي يتلى عليه آيات من القرآن فيشفى المرضى. هبطنا إلى الأسفل، غسلت وجهي وتذوقت من ذاك الماء. 

بلغنا البتراء في السادسة مساء وأسرعنا نحو باب المدينة القديمة. هناك نافذة لشراء تذاكر السياح للدخول. قال الموظف من وراء شباك حديدي:” لقد أغلقنا البوابة. الطريق إلى الداخل طويل، وحين ستصلون سيكون الظلام قد حل". حاولت اقناعه أننا قطعنا كل هذه المسافة لرؤية الغروب بداخل المدينة." أعتذر هذا هو القانون. يمكنكم الصعود إلى أعلى أحد القمم المطلة على المدينة ورؤيتها من هناك". 

اتخذنا طريقنا نحو أحد القمم، وهناك جلستُ على صخرة أمام المدينة القديمة المختبئة بين شقوق الجبال. كان اسمها العربي القديم (سلع) والبتراء، (بييترا) أو الصخرة هو اسمها اليوناني، لعله أنه مشتق من بطرس الرسول. كانت مركزاً تجارياً حيوياً وطريق مواصلات هامة لدى العرب القدماء ثم واصلت أهميتها الإستراتيجية في عهد الرومان. انتظرت الشمس وهي تهبط مقتربة من قمم الجبال، بدأت ألوان صخور الجبال بالتحول إلى الوردي. التقطت عدة صور ثم هبطت بحثاً عن فندق. 

في الخامسة والنصف فجراً رن الهاتف وجائني صوت "أبو أنس" وهو بانتظاري في بهو الفندق. تحركنا على عجل. علينا أن نسبق شروق الشمس. دخلنا المدينة وعلينا أن نسير مسافة كيلومترين. تستتر المدينة بين الوديان الضيقة القديمة، والصروح الموجودة فيها تقدير أبدي لحضارة الأنباط المفقودة كما تقول الكتب. 
الأنباط قبائل بدوية عربية استوطنت جنوبي فلسطين في القرن الرابع قبل الميلاد، وقد إتخذوا البتراء عاصمة لهم وصدّوا حرب أنتيغونوس السلوقي ضدهم عام 312 ق. اشتهر عدد من ملوكهم بإسم الحارث، وقد حاربوا اليهود ومدّوا سيطرتهم على أجزاء من سوريا. وأشهرهم الحارث الثالث (85 – 60 ق.م) والحارث الرابع (9 ق.م- 40 م) والذي زوّج إبنته من هيرودس أنتيباس، ثم حاربه وهزمه بعد طلاقها. وقد قضى  الإمبراطور ترايانس عام 106 م على مملكة الأنباط.

 بعد المدخل توجد "صهاريج الجن" الغامضة. وهي ثلاثة صروح حجرية اختلفت الآراء في استعمالها الأصلي. يعتقد البعض أنها اضرحة بينما يظن آخرون أنها مكرسة للإله النبطي "دوشار". على اليسار يوجد ضريح المسلة. وقد سمي بهذا الاسم بسبب المسلات الأربع الموجودة في الطابق العلوي من الصرح. وكانت المسلة رمزاً جنائزياً نبطياً. نظرت إلى المسلات. إنها رمز غريب يوحي دوماً برغبة الإنسان في الخلود أو لعله الصعود إلى السماء من أجل الإتصال بالقوى العليا. 

إلا أن تلك الرغبة ووجهت دوماً بالحروب. والحروب بقدر ما تعبر عن السيطرة وعن نزعة الشر المتأصلة في النفس الإنسانية، أدت كذلك إلى ولادة الحضارات. من خلال الحروب امتدت المملكة النبطية نحو دمشق وأجزاء من صحراء سيناء والنقب. ولكن الحضارات تجلب الأطماع والموت والفناء كذلك. هذه الدائرة الكونية المستمرة دارت على الأنباط. 
أصبحت البتراء محط إعجاب واسع حيث سيطرت على الجزء الأكبر من بلاد العرب، وشدت الأنظار بثقافتها الرفيعة وأسلوب بنائها المهيب وما في شبكة سدودها وقنواتها المائية من اتقان معماري. لهذا رأت روما في نفوذها وازدهارها المتزايدين تهديداً لها. هكذا ألحق الإمبراطور الروماني تراجان سنة 106 م المملكة النبطية بالإمبراطورية الرومانية جاعلاً منها ولاية عربية تابعة لها وعاصمتها البتراء. ولكن ما كاد الرومان يسيطرون على طرق التجارة ويحولونها صوب بصرى في سوريا اليوم حتى كان انهيار البتراء سريعاً.
مضينا في السير نحو (السيق) وهو شق ضيق طوله أكثر من كيلومتر يمتد محصوراً بين صخور يبلغ ارتفاعها 100 متر. والسيق هو المدخل الرئيس إلى البتراء. لا شك أن الأنباط عندما اختاروا عاصمتهم في هذا المكان كانوا يهدفون إلى حمايتها من الأعداء. فالشق ضيق ولا يسمح بمرور أعداداً كبيرة من الناس والمتسللين وأصحاب الأطماع. 

واصلنا سيرنا بين جدارن هذا الجرف الصخري الغريب. الإحساس الذي ينتابك هنا مدهش. أنت في عمق الأرض ولايمكن لك رؤية السماء. وفي هذا العمق رأيت النقوش القديمة والغرف المقطوعة في الصخر والمنحوتة في ثنيات  الحجر الرملي. 

بعد ذلك ظهر لي فجأة أشهر أثر من آثار البتراء، وهو " الخزنة". نحت شاهق مثير للنظر والتأمل. كان أبو أنس يريد أن يواصل السير فقلت :" أحتاج أن أتوقف هنا وأجلس لتأمل هذا الإبداع الإنساني المهيب". 

الخزنة نحت عميق في جرف جبل عال، وأعمدة شاهقة فوقها جرة صخرية كبيرة. كان يعتقد أن الجرة القابعة في أعلى الصرح تحوي كنوزاً لا تحصى من الذهب والجواهر القديمة. نُحتت الخزنة في القرن الأول للميلاد كضريح لأحد ملوك الأنباط، ثم  استعملت فيما بعد كمعبد. وتظهر الواجهة المنحوتة بدقة آلهة نبطيين وشخصيات ميثولوجية أخرى. يقول معماري صيني: " المعمار الجيد كالمقطوعة الموسيقية المؤلفة بجمالية ومبلورة في الفضاء كي ترفع أرواحنا إلى ماوراء حدود الزمن". هكذا هو معمار البتراء.

رنوت إلى الجرة الشاهقة، ورأيت بعضاً من أجزائها محطمة. قال لي أحد الحراس عندما وجدني مستغرقاً في تأملها: " لقد اعتقد الكثيرون أنهم سيجدون الكنوز في الخزنة لهذا هاجموها وحطموا أجزاء منها بل وأطلقوا عليها النيران. لكنهم لم يجدوا شيئاً". 

ثم كان عليّ أن أصعد جبلاً لرؤية قبور ملوك الأنباط العظماء. كان يجب ارتقاء صخوراً ضخمة حتى أصل إلى الأعلى. وهناك دخلت مغارات محفورة باليد حيث ترقد القبور. تلك الأضرحة الملكية التي تبلغ 500 ضريح هي الأكثر تأثيراً في النفس. ما هذه القشعريرة الغريبة التي تسري فينا حين نزور القبور العتيقة.

لكأن ارواح اولئك الملوك تحلق فوقي. تسألني من أنت، ولم أتيت إلينا؟ اقترب من أحد أكبر الأضرحة. إنه قبر (عنيشتو) أحد الملوك النبطيين. على جدران تلك المغارة المنحوته خطوط ورموز عتيقة تمنيت لو استطعت قراءتها. ماذا تقول؟ وهل هي رسائل تركت هناك محفورة منذ آلاف السنين كي تصل إلينا؟  

أمام الأضرحة يستلقي المسرح. تصميم نصف دائري بناه الأنباط وكان يستوعب أكثر  من 7000 آلاف مشاهد حيث كانوا يستخدمونه للعروض والاحتفالات الملكية وقد طوره ووسعه الرومان. 
في الطريق أطلب من السائق أن نتوقف لأروي عطشي من مياه عين موسى. ملئت زجاجة كاملة، وحين شربت وجدت الماء عذباً وحلوا بشكل لا يُصدق.

بقيت البتراء رغم الزمن شاهدة على حضارة عربية عريقة مازالت آثارها محفورة في جبالها الوردية وتؤكد أنها جديرة بالزيارة والدراسة والتأمل.

  












ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

  شعر ميري أوليفر : ترياق لتجاوزات الحضارة ترجمة - خالد البدور فقد الشعر الأميركي   عام  2019  ميري أوليفر، أحد الأصوات الشعرية ...