الثلاثاء، 10 مارس 2020

شمس صغيرة... وشغب



شاطئ جميرا - مارس 2018 


1

لو قُدِّر لي أن أصرخ:
يا لها من فؤوس
تلك التي دفنها غزاة مجهولون
في رمال روحي
إذن
لأسقطتُ إشاراتي في حُميّا الشارع
لحَنَثتُ بمشاريع المساء
وهي تقذفُ ذرائعَها في وجهي،
ذخائرَ الأحلام ونيرانها الخفية
تحت أثواب الذاكرة.

خبأتُ زمني
وكطائر مائي
بلًّلني بؤس البحيرات
لهوتُ بلوثة ثدي
كالفرس اعتلى سوري
تطوَّعتُ لمقاتلة مسرَّة الطفولة الخادعة
أرقدتُ هيجان الحكايات
ولمّا أفقتُ
وجدتني أحرسُ خطايا السنين.

2

يرمون شعلة في طريقي
ألتفُّ كجنينٍ فاجأه ضوء الحياة،
ويهربون
حفاة الأزقة بدعاباتهم الماكرة،
ذلك ما كان يحدث
يخفقُ نجمٌ في الأفق
يتبعه قمرٌ صامتٌ
ونحن نجمع مزامير المساء الذاهب
بعض محار مُهمل،
لا السُّفُنُ تقوى على السفر
ولا ثعالب التلال تُخلي المسافة
فإلى أي مرفأ تحجِّين
يا طفولتي؟

3

لولاكِ أيتها القصَّة الشائكة
لكنتُ أبيع سفرجلا بأبواب الحانات
وأعود آخر اللَّيل مُحمَّلاً بالنَّشوة.

أي فخٍّ أسكنتني المقادير
أقتاتُ وِحدتي
مضمداً تباريحَ الوجهِ بالأمنيات الشائخة،
آهٍ، متى تصفو هذه الغرفة
من دخان أنيني؟

4

اصطفي في صباحي شمساً صغيرة
لأشاغبها
أشيِّعُ كوابيس الظلام
وأقول... ذهبَت
وبدهاء الذئاب تعود كلَّ ليلة
وتقذفُ بي في الشرك.

شقيقتي في الانتظار
في الرأس طيور دُخانية
تمارسُ هجراتها في صمتٍ
والحلبة لا تتسع إلا لمهرِّجِ واحد
يقرعُ بأجراسه قهقهات البهو،
القطارات تعرفُ أن المسافرين
ينتظرون رياحاً سرِّية،
فلا تُصدقي خرافات العجائز
عن العواصف ذات الأجنحة الذهبية،
لطالما انتظرنا المحار
الذي يخبئ نساءً في القيعان،
متى تكفُّ عن الطواف
هذه الأجساد العصيَّة.

6

أفراشٌ إلهيٌ
هذا الذي يُحوِّمُ فوقي
هل أفلح في اصطياده،
أم نرجسٌ، 
صنوبر، دوريٌ
غزالٍ غافٍ على المخيلة
فأسٌ حبيسٌ في قاع بئر
خرائبُ تضجُّ بمارَّة سكارى
عباءة فوق غصنٍ
تمثال يركض خلف نحّاتٍ
وأشياء أخرى...
إيه أيتها الأحلام،
لك المغفرة.

(نُشرت بجريدة اللواء، بيروت، 1995  )



الجمعة، 6 مارس 2020

الشاعر البرتغالي: يوجينيو دي اندرادِه (الجلد الحلو أو القاسي للأشياء)






إعداد وترجمة: خالد البدور

       لعل يوجينيو دي أندرادِه (1923 - 2005) هو ثاني أشهر شاعر برتغالي معروف ومترجم له على نطاق عالمي بعد فرناندو بيسوا، فقد تُرجم إلى مايقارب 20 لغة حية. ولد في قرية صغيرة تسمى بوفوا دي أتاليا، بالقرب من الحدود الإسبانية. عاش حياة فقيرة مع والدته التي كان يعشقها، وقضى طفولته يلعب مع الأغنام والطيور وجراد الريف. كل هذه الكائنات، تظهر في قصائده، مع أشجار الحور، والتوت، وعباد الشمس، والحقول المعشبة تحت الشمس الحارقة.  إنها تتماهى ببلاغة وبساطة في عمق صوته ورؤيته الشعرية. أصدر أولى مجموعاته الشعرية حين كان في السادسة عشر من عمره. نال الشاعر معظم الجوائز الأدبية الشهيرة في البرتغال وأوروبا. ارتبط اسمه مع جيل الـ 27 في إسبانيا، مثل فنسينت أليكسندريه وغارسيا لوركا، حيث قام بترجمة أشعاره حين كان شاباً. ومع أنه نأى بنفسه عن التأثر بريلكه فإن عشقه للأدب الإغريقي بقي معه على الدوام، كما هو الحال عشقه للشعر الصيني والياباني، (خاصة تو فو وباشو) وشعراء الرمزية الفرنسيين (خاصة رامبو). من بين شعراء أميركا كان والت وايتمان شاعره، بل بطله الروحي المفضل، كما يقول آليكس ليفيتين. أما من تأثر بهم مسبقاً فنجد سان خوان دي لاكروز وفيرغيل. 

تُبدي نصوص دي أندرادِه بذكاء بساطة ظاهرة. ومع أنه مثقف جداً فإنه يبتعد في أشعاره عن التثاقف والإستعراضات المعرفية. إنه مخلص للأرض، ولمادية الحواس. من خلال الكلمات المختارة بدقة والصور الشعرية اللافتة، يعمل على توصيل ما يسميه هو بنفسه (الجلد الحلو أو القاسي للأشياء). يرتاب من التجريد، مركزاً على عالم المادة، معلناً عشقه لـ كلمات ناعمة كالحصى، خشنة كخبز نبات الجاودار. كلمات لها رائحة البرسيم والغبار، التربة والليمون، رائحة الزبيب ورائحة الشمس كما يقول. صرح مرة، هكذا أريد القصيدة: ترتعش في الضوء، مخشوشنة بالأرض، متدفقة مع الماء ومع الريح.
إن عناصر الطبيعة الأربعة: التراب والهواء والماء و النار، لاتختفي أبداً من قصائده، كذلك الأمر مع الجسد الإنساني، حيث نرى حساسيته وجنسانيته تشكل أرضية مجموعته الشعرية (المنطقة المعتمة)، ولهذا لا يرفض الشاعر أن يوصف بالوثني أو بعابد الشمس، والذي يصبح الجسد بالنسبة له المجاز الأخير لهذا الكون.

يقول الناقد جي دي ميكلاثجي أن النوستالجيا النابضة هي ما يهتم به دي أندريه والعالم الطبيعي هو مثاله. ويرى الشاعر الأسباني إنغيل كريسبو أن " صوته جاء ليُعمِّد العالم"، أما الشاعر نفسه فيصف شعره بالقول بأنه "الجلد القاسي والحلو للأشياءو أن " الأرض و الماء و الضوء و الريح، تتحد جميعها في جسدٍ واحد ليمنحها شعري ما تستحق من الحب".  


                              نهرٌ ينتظرك

الوقت ليلٌ وأنت وحدكَ
في مدينةٍ مفتوحةٍ على الرياح الشرقية.
هناكَ الكثير مما لا تعرفه
و من المتأخر جداً أن تسأل.
إلا أن لديك ما يكفي من الكلمات،
الكلمات الأخيرة
شاحبة، كئيبةٌ، وأنت، مُهمَلٌ.

لوحدِك
و يأتي الجسر العظيم فوق النهر 
ليستقبلكَ
تنظرُ إلى الأسفل حيث عبَرت القوارب
الماءُ مظلمٌ، كثيفٌ،
له خريرُ لَـيْلَكٍ أو طيور ليلْ.

للحظةٍ أنتَ تنسى المدينة
و أرواحها الشغوفة بالتجارة،
حشودها المسرعة لبناء أكفانٍ صغيرة للرغبات،
تلك المدينة حيث الكلاب المفترسة،
بقدرٍ شديدٍ من التقوى،
حيث يلمع الأطفال في عريهم.

أنت تنظر إلى النهر
كما لو كان سرير طفولتك
تتذكر النبتة العسلية
فوق الجدار الخلفي،
وفاكهة المندرنوب التي جمعتها من الشجرة،
ثم رميتها بعيداً،
الأصدقاء الذين ارسلت لهم كلمات بريئة
وعادت وهي دامية،
تتذكر أمك وهي تنتظركَ
وعينيها تندى بالبهجة.

أنت تنظر إلى الماء، إلى الجسر
خطوط الأضواء
ثم تنظر إلى الماء مرة أخرى :
الماء
ماءٌ من الكلمات
ظلٌ خالصٌ
في أيام الصيف الطويلة.

وحدُكَ
مهجورٌ و وحيد
و الوقت ليل.

                                لشبونه

هذا الضباب فوق المدينة، النهر،
نوارس يوم آخر، قوارب،
ناسٌ في استعجال أو لديهم كل وقت العالم،
هذا الضباب حيث يبدأ ضوء لشبونه
وردٌ وليمون فوق نهر تاغوس، ضوء ماء،
لا أتمنى شيء آخر فيما أصعدُ
من شارعٍ لشارع.

                                 بحرٌ متوسطي

كما لو كان في قصيدة لوايتمان، صبيٌ صغيرٌ
يأتي إليَّ ويسأل: ماهو العشب؟
بين نظرته ونظرتي الهواء يؤلم.
في ظلِّ مابعد ظهيرة أخرى أتحدَّثُ إليه
عن نحلٍ وشوكٍ قريبٍ من الأرض.

                                  بيتٌ تحت المطر

مطرٌ، مرة أخرى، المطرُ فوق أشجار الزيتون.
أنا لا أعرف لمَ يعودُ في مابعد الظهيرة هذه
ما دامت أمي قد رحلت بعيداً،
لم يعد يمكنني الخروج إلى الشرفة لمراقبته يهطلُ،
لم يعد يمكنها رفع عينيها عن الخياطة لتسأل: هل تسمعه؟
أسمعهُ، أمي، المطر مرّة أخرى،
المطرُ فوق وجهكِ.

                                 كلمات

كما لو أنها بلّوراً،
الكلمات.
بعضها خنجرٌ،
بعضها لهبٌ،
بعضها،
ليست سوى
ندى.

تأتي في السر، مليئة بالذكريات.
تبحر دون أمانٍ
كمَحارٍ، أو قبلات
والماء يرتعش.

مهجورة، بريئة،
دون وزنٍ،
منسوجة من ضوء
هي الليل،
حتى أنها شاحبة،
تذكّر بفردوس أخضر.

مَن يسمعها؟ مَن
يجمعها، هكذا،
وحشية، بلا شكلٍ
في أصدافِها النقية؟



                                بحرٌ سبتمبري

كل شيء كان مضاءً
السماء، الشفاة، الرمل.
وكان البحر قريباً،
مهتزاً بالزبد.
بالأجساد أو الأمواج:
من وإلى، من وإلى،
حلو، وخفيف-
مجرد إيقاع وخفّة.
فرحين، يُغنون،
ينامون بسلام:
ويمارسون الحب وهم يقظون،
يمتصّون الصمت،
كل شيء كان مضاءً
فتيان بأجنجة
وكان البحر قريباً.
ذهبي، ونقي جداً.

مياه خفيَّة

مجرد همسة من هواء
تلك الشفاه.

الشفاه؟ هل قلت شفاه؟
أم الرمال؟
شفاهٌ. عطشى
لازالت إلى شفاه أخرى.

عطشٌ للبياض
تكاد تكون شعلة
شعلة
تكاد تكون قطرة ندى.

شفاه:
مياه خفيَّة

أي صوتٍ مضاء بالقمر

أي صوتٍ مضاء بالقمر يصبح حميمياً
للذي لا يجد صوتاً

أي وجهٍ يتهجى أمام الليل
كل نور أرقٍ للصباح

أي قبلة ذهبية تبحث عن
شفاهٍ من هواء وماء؟

أي يدٍ بيضاء تكسر ببطء
غصن الصمت؟

ستكون هناك كلمات

سوف نقول مرابع لأرض الغابات
أوائل الربيع
وكلُّ ما يمكن أن نقوله
أن نقول فقط
أننا كنّا صِبْيَه.

سنقول حب الأم
قاربٌ
وسنقول فقط
بأنه لا يمكن لأي شيء
أن يجعل القلب ليصبح كريماً.

سنقول بحر الأرض
أو زهرَ العسل،
ولكن دون موسيقى في دمنا
مجرد كلمات فيما سيصبحون عليه،
مجرد كلمات، تلك التي سنقولها.

أغنية مع نوارس بيرميو

هل هو مارس؟ أو أبريل؟
إنه يوم مشمس
قريباً من البحر
إنه يومٌ
حيث يتحول فيه كل دمي
إلى عناق وندى.

أي لون كنتِ ترتَدينَهُ
ضوء الندى أو الليمون
أي سُحُبٍ كنت تحدقين فيها،
أي تلالٍ
بينما تشيحين وجهك
عن الكلمات التي أكتبها،
تقفين هُنا،
تطالبين بحُبِّكِ؟
أهو يوم في مايو؟
إنه يوم أتعثَّرُ فيه
فوق الهواء
بحثاً عن زرقةِ عينيكِ،
حيث صوتكِ
بداخلي، يسألُ،
مُصِرّاً:
هل غادرتكَ، أوه يا صديق الروح؟

أهو يونيو؟ أهو سبتمبر
إنه يومٌ
أكون فيهِ مُثقلاً وممتلأ بكِ
أو بالفواكه،
وأنا أتعثَّرُ خلال الضوء، كالأعمى
بحثاً عنكِ.  
 —————————————————-
المصدر:

كلمات محرمة: مختارات شعرية لـ يوجينيو دي أندرادِه، ترجمها إلى الإنجليزية آليكس ليفيتين. إصدارات نيو داريكشن، نيويورك 2003 

  شعر ميري أوليفر : ترياق لتجاوزات الحضارة ترجمة - خالد البدور فقد الشعر الأميركي   عام  2019  ميري أوليفر، أحد الأصوات الشعرية ...