الأربعاء، 19 يونيو 2019

عمان: نهارٌ بين رمال «الشرقية» وقراها



   الحادية عشر صباحاً، يوم شتوي عماني بارد وغائم، من أيام عام 2002 . وهو دون شك يوم رائع للارتحال. الصديق الشاعر العماني محمد الحارثي، الذي ألتقيه بعد سنين طويلة، يقود سيارة ذات الدفع بالعجلات الأربع. نعم، قال، لن يحملنا في الرمال سوى هذه العربة التي استعرتها من أخي كي استطيع إيصالك إلى «الرمال».

تتوارى مسقط خلفنا، وننطلق بسرعة إلى «الشرقية» لرؤية رمال «الوهيبة»، في الموضع الذي يلتقي فيه الربع الخالي بالجبال ثم يتصل في لقاء جغرافي فريد بسواحل بحر العرب. نسلك الطريق المؤدي إلى «صور»، قاصدين عمق الجبال.

انتظر، قال الحارثي، وانتظرت، سوف تظهر لك الصحراء عما قريب، حينها ليس عليك سوى التحديق في تلك الجبال الترابية الشاهقة. نقترب من «سمائل»، قال، وتذكرت على الفور الاسم. هذه البلدة المختبئة بين الجبال انجبت كبار مفكري عمان وشعراءها. ثم سندخل «إبرا» حيث سنبيت الليلة، ولكن قبل الظلام سنزور الرمال يا صاحبي.
 هذه هي «المضيرب» القرية التي ولدت فيها، قال الحارثي، ما رأيك لو نتوقف فيها، جميلقلت. نقترب من البيوت. هنا، ولدتُ، هذا بيتنا القديم، وهنا مكتبة والدي، الذي كان شيخ علم وأدب. نتسلل بالسيارة في الأزقة الضيقة، آآآه،  أترى أشجار الموز والنخيل، آآآآه كم أحن إلى هذا 
هاهو الفلج، الماء الجاري الذي يمر تحت الأزقة والبيوت الطينية. نتوقف ونهبط. اغسل وجهي بالماء العذب البارد ويهب نسيم كهواء الريش غاسلاً الغبار الذي تتركه الأيام. يعود لي بيت للشاعر عمان محمد بن شيخان السالمي:

 هب النسيم بريح ريحان لأحباب   وإترنّحت أغصان قلبي بتطريب

 وبن شيخان السالمي أقام في «المضيرب» سنين طويلة. ولد في الرستاق عام 1868 وتوفي عام 1927. وقد أبدع في شعر الوصف والحب والحكمة والمديح حتى لُقِّب بـ «شيخ البيان». تتلمذ على يد عدة علماء منهم نور الدين السالمي وقد درس على يده علم الكلام وغيره من علوم البلاغة. ثم ترك الرستاق وأتجه إلىالشرقيةحيث أقام في «المضيرب». حين تداول الناس شعره واصبح معروفاً، دعاه السلطان فيصل بن تركي لزيارته في مسقط، فأستقر فيها. ثم هاجر إلى عدة مناطق خارج عمان وبعدها عاد ليستقر ويقوم بتدريس الأدب والفقه والتاريخ وتخرج على يده عده علماء وقد ترك أشعاراً كثيرة خرجت في ديوان نشر عام 1979.
وبينما أطوف أزقة المضيرب تعود لي قصيدة السالمي الشهيرة «حب الغواني». كان والدي يحتفظ بتسجيل قديم لها بصوت الشيخ أحمد بن حافظ، الذي كان يأتي من دبي مع والده الشيخ عبد الرحمن بن حافظ إلى عمان حيث تعلم فيها فنون الإنشاد في صباه. كان صوته عذباً وشجياً. يغني بن حافظ للسالمي
حب الغواني عن الولدان أغناني             وذكرهن جميع الناس أنساني
إلى أن يقول..
هدّت لواحظها قلبي كما هشمت             مدافع ألمانيا جيش البريطاني.

هذه هي «القابل»، قال محمد الحارثي، مركز الشيخ صالح بن عيسى الحارثي، صاحب اتفاقية «السيب» الشهيرة عام 1920. وبعدها تأتي «الواصل»، موطن علم ومعرفة. وقد عاشت فيها «عابدات الواصل» وهن نساء متصوفات في المذهب الإباضي، وكان لهن تاريخ وتعاليم، لكن كل ذلك اختفى اليوم. 
بعد أيام من هذه الرحلة سأسأل الشاعر العماني سماء عيسى أو عيسى الطائي عنهن، فيخبرني أن تقاليد «العابدات» اختفت ولا يوجد أي بحث علمي أو دراسة عنهن. وقد بحث هو في هذا الجانب، وأنهى ديواناً شعريا عن ذلك الموروث الفريد من نوعه في تاريخ التصوف الإسلامي، وأقصد سلوك النساء للتصوف والزهد.

نصل إلى «المنترب»، وبها حصن معروف قتل فيها جنديان بريطانيان، ودفنا أمام الحصن. لو كان الوقت مبكراً، لدخلنا الحصن، ولكنه الآن مغلق وعلينا السير إلى «الرمال» قبل أن يلحق بنا الظلام.
نصل آخر قرية قبل «رمال الوهيبة»، وهي قرية «الحويّه»، واحة تكتظ بالأشجار والأفلاج الجارية. سميت بهذا الاسم لأن كثبان الرمال الشاهقة تحتويها من كل جانب.، أعود إلى السالمي الذي قال فيها: 

ولينة الفراش لها نسيم        يعيد لكل تائهة هداها
تفوح بها رياح المسك لكن     بلون الورد قد خصبت رداها

ندخل بالسيارة بين أزقة، وسط حقول تنتصب فيها طِوال النخيل الثابتة منذ القدم بين مسارب الأفلاج. في «الحوّية» ولد العلاّمة علي بن سالم الحجري، ولازالت مكتبته تقبع في بيته القديم الذي يقيم فيه ابنه، تحوي المئات من أمهات الكتب في التاريخ والفقه والأدب، كما تحوي مخطوطاته الكثيرة، التي كان يخطها بنفسه بخطه الجميل، معتزلا العالم من حوله.

نصل أخيرا إلى رمالالوهيبة”. اطلب قيادة السيارة. اصعد بها الكثبان نحو قممها. المكان جسد رملي شاسع ومهيب. قيادة السيارة في الرمال متعة لا توصف. تنساب هذه العربة الحديدية دون حواجز أو شوارع، لكأنها تسبح في بحر لا نهائي، ويتيح الدفع بالعجلات الأربع متعة الولوج إلى أعماق الرمال والتيه الساحر في هذه الجغرافيا.
نمر قرب مضارب البدو، ونتوقف عندهم. على حافة كثيب يستقبلنا ببهجة عدة أطفال، نؤشر عليهم فيركضون صوبنا، نناولهم بعض الحلويات، فيبتهجون. ما أسمكِ؟ سألت الطفلة... “وضحةقالت. لم تتجاوز الخامسة، لها شعر أشقر وعيون زرق ذات عمق وصفاء. يخرج الأب من البيت الصغير المبني من سعف النخيل، ويستقبلنا. 
تهرع زوجته لإعداد القهوة. يا مرحبا، قال «حميد الوهيبي». بدوي ناحل لم يصل منتصف العمر بعد، و يتحلق حولنا الأطفال في فرحة غامرة. قال: حياتنا بين تربية الأغنام والهجن. أترى سيارتي هناك؟ عليها لوحة أرقام أبوظبي، معظم أعمالنا في دولة الإمارات، هناك نبيع الأغنام والجمال.
يقدم لنا القهوة والتمر، ويصر على تناول العشاء عنده، لكن كان علينا ترك الرمال، فودّعناه.

على قمة كثيب عالٍ كما لو كان جبلاً، بين قمم «الوهيبة»، حدقت في شمس ذلك اليوم تودّع الأرض بجلال، وتأملت الصحراء، تستقبل الليل، شاسعة وبهية وغامضة. 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

  شعر ميري أوليفر : ترياق لتجاوزات الحضارة ترجمة - خالد البدور فقد الشعر الأميركي   عام  2019  ميري أوليفر، أحد الأصوات الشعرية ...