الأربعاء، 23 ديسمبر 2020

حدود الذات وآفاقها: بين العلم الحديث والفلسفة الشرقية







 ترجمة: خالد البدور


يُعد الكندي إيفان تومسون أحد العلماء والكتاب المتخصصين المعروفين في فلسفة العقل في السنوات الأخيرة. له العديد من المؤلفات والأبحاث، بالإضافة لكونه أستاذ للفلسفة في جامعة بريتش كولومبيا في فانكوفر. تدور أعماله حول طبيعة العقل وعلاقتها بالذات والتجربة الإنسانية، ويعتمد فيها على مناهج العلوم الحديثة وفلسفة الفينومينولجي أو الظاهراتية، والفلسفات المقارنة، خاصة التراث الفلسفي الشرقي. 


المقالة التالية مقتطفات مختارة من بحث نشره في الفصلية الأكاديمية "الفلسفة، شرقا وغربا" الصادرة عن جامعة هاواي في يوليو 2016، ويقدم فيها ملخصاً لأفكاره بشكل عام، وتلك التي قدمها في كتابه الهام " الاستيقاظ والحلم والوجود: الذات والوعي في علم الأعصاب والتأمل والفلسفة". وعلى الرغم من أن الكاتب يعتمد العلوم التجريبية والتقاليد الفلسفية اليوغية الهندية في بحثة، فهو يستقي الأفكار من مجموعة واسعة من المصادر الأخرى، مثل الشعر والسرد الروائي والفلسفة الغربية والطاوية الصينية والخبرة الشخصية.

الفكرة المركزية التي ينبغي التركيز عليها في مجال دراسات الوعي هي أن "الذات" the Self عملية مستمرة وليست (شيئاً) معين أو كيان ما. الذات ليست شيئًا خارج التجربة، أو شيئا مخفياً في الدماغ أو في حقل غير مادي. إنها عملية يمكن اختبارها، وتخضع للتغير المستمر. نحن نصنع الذات في عملية الإدراك، وهذه الذات تأتي وتذهب اعتمادًا على كيفية إدراكنا.

عندما نكون في حالة يقظة، منشغلين ببعض المهام اليدوية، فإننا نُفَعِّل الذات الجسدية والموجَّهَة لبيئتنا المباشرة. ومع ذلك، فإن هذه الذات الجسدية تَتَبدَّد من التجربة التي نمر بها إذا استغرقنا فيها بشكل ذهني. إذا تشتت ذهننا، فإن الذات المتخيلة عقليًا للماضي أو المستقبل تتفوق على ذات اللحظة الحالية.

عندما نبدأ في النوم، يتراخى الشعور بالذات. وتطفوا الصور، ويصبح إدراكنا مستغرقًا في هذه الصور بشكل تدريجي. يتلاشى الانطباع بأنني فرد محدّد مستقل عن العالم. في حالة النوم هذه، يبدو أن الحدود بين الذات واللا-الذات تتلاشى.

يعود الشعور بكونك شخصًا مستقلا منغمسًا في العالم مرة أخرى في

حالة الحلم. نختبر الحلم من منظور الذات بداخله، أو "أنا" الحالم. على الرغم من أن عالم الأحلام بأكمله موجود فقط كمحتوى لإدراكنا، فإننا نُعرِّف أنفسنا في جزء منه فقط، أي أن "أنا" الحالم تتركز في تجربتنا في عالم الأحلام وتقدم نفسها على أنها مركز إدراكنا.

في بعض الأحيان، يحدث شيء آخر. نحن ندرك أننا نحلم، ولكن بدلاً من أن نستيقظ، نستمر في الحلم مدركين أننا نحلم. ندخل ما يسمى بالحلم المجسد (الذي يدرك فيه الإنسان وهو وسط الحلم أنه يحلم). هنا نحن نختبر نوعًا مختلفًا من الإدراك، حيث يمكن للمرء مشاهدة الحلم. بغض النظر عن محتويات الحلم التي تأتي وتذهب، بما في ذلك الأشكال التي تتخذها الأنا في الحلم، يمكننا القول إنها ليست مثل وعينا حين نكون في حالة الحلم. لم نعد نعرِّف أنفسنا فقط مع "أنا" حلمنا، "الأنا" كما نحلمها، لأن إحساسنا "بالذات" يتضمن الآن ذاتنا التي تحلم، و"أنا" كحالم. وبالمثل، أثناء التأمل في حالة اليقظة، يمكننا ببساطة أن نشاهد أننا واعين، ونشاهد أي أحداث حسية أو عقلية تحدث داخل حقل إدراكنا. 

وفقًا للتقاليد اليوغية الهندية، والتي يتم تفسيرها على نطاق واسع لتشمل البوذية، يمكننا التمييز بين ثلاثة جوانب للوعي. الجانب الأول هو الإدراك، والثاني هو محتويات الإدراك، والثالث هو كيف نختبر بعض محتويات الإدراك هذه مثل "أنا" أو "نفسي" أو "لي". من هذا المنظور، لفهم كيفية قيامنا بتفعيل الذات، نحتاج إلى فهم ثلاثة أشياء، طبيعة الإدراك ومحتوياته الحسية والعقلية، وعمليات العقل والجسم التي تنتج هذه المحتويات، وكيف يتم اختبار بعض هذه المحتويات على أنها "أنا" أو "نفسي" أو "لي". 

في كتابي "الاستيقاظ والحلم والوجود"، اتناول هذا الإطار الثلاثي للإدراك،

ومحتويات الإدراك، والتجربة الذاتية، أو ما يسميه التراث الهندي "أهامكارا" 

أنا- الفاعل، I-making،  واخضعها للعلوم المعرفية. وبينما قام المفكرون الهنود برسم خارطة للوعي، و"أنا- الفاعل" في المصطلحات الفلسفية والظاهراتية، أقوم بعرض كيف أمكن لأفكارهم أن تساعد أيضًا في تطوير علم الأعصاب والوعي من خلال نسج علم الأعصاب والفلسفة الهندية معًا في محاولة لاستكشاف اليقظة، والنوم ، والحلم، والأحلام المجسدة، وتجارب الخروج من الجسد، والنوم العميق بلا أحلام، وأشكال الوعي التأملي، وعملية الموت.

تم تنسيق البحث هنا وفق التراث الهندي، وتحديدًا الأوبانيشاد، وهو أحد أهم مصادر الفكر الهندوسي، والذي يمكن القول أنه يحتوي على أول خريطة مسجلة في العالم لـلوعي. أقدم النصوص فيه تحدد ثلاث حالات رئيسية للذات: حالة اليقظة، وحالة الحلم، وحالة النوم العميق بلا أحلام. ويضيف النص الأخير من الماندوكيا أوبانيشاد، حالة "رابعة" وهي توريا Turīya أو الوعي الخالص. 

الحالة الأولى، وهي وعي اليقظة يتصل بالعالم الخارجي ويدرك الجسد المادي باعتباره هو الذات. ترتبط الحالة الثانية وهي الوعي بالحلم بالصور الذهنية التي تتكون من الذكريات ويدرك الجسد الذي يحلم بأنه هو الذات. أما الحالة الثالثة وهي النوم العميق بلا أحلام، فيقبع الوعي فيها في حالة من السبات، حيث لا يمكن التفريق بين الذات والموضوع.

يوصَف الوعي الخالص بأنه الحالات المتغيرة الكامنة من اليقظة والحلم والنوم بلا أحلام، أو هو الشاهد عليها دون التماثل معها أو مع الذات التي تظهر فيها.

أستخدم هذه البنية الرباعية لتنظيم استكشافي للوعي والشعور بالذات عبر حالات الاستيقاظ والحلم والنوم العميق، وكذلك حالات التأمل المكثفة من الوعي والتركيز.

في التقاليد اليوغية (نسبة إلى اليوغا)، يستخدم التأمل كتدريب للقدرة على المحافظة على الانتباه لشيء واحد، والقدرة على جعل الإدراك منفتحاً على مجال التجربة بأكملها، دون اختيار أو قمع أي شيء ينشأ من ذلك. في كلا هاتين الحالتين للتأمل، أي من خلال التركيز الأحادي الاتجاه، والوعي المنفتح، يتمكن المرء من تعلم مراقبة صفات محددة للتجربة، مثل التقلبات التي تحدث في الانتباه لحظة بعد لحظة، وتقلبات المشاعر، والتي يصعب على العقل القَلِق إدراكها. إحدى الأفكار الموجهة للاستيقاظ والحلم والوجود هو أن الأفراد الذين يمكنهم التحرك بشكل واثق ومرن بين هذه الحالات المختلفة للانتباه والوعي، والذين يمكن لهم الوصف بالمصطلحات الدقيقة كيف يشعرون بتجربتهم من لحظة إلى أخرى، يقدمون مصدرًا جديدًا للمعلومات عن الذات والوعي لأجل علم الأعصاب وفلسفة العقل.

أما بشأن الرأي السائد في علم الأعصاب و "الفلسفة العصبية" وهو أن الذات ليست سوى وهم يخلقه الدماغ، فإنني أسمي هذا الرأي "العدمية العصبية". على الرغم من أن الذات هي بُنيَة، أو بالأحرى عملية تكوين مستمرة، فإنها ليست وهمًا. الذات عملية مستمرة، وهي التي تُكوِّن "أنا" والتي لا تختلف فيها هذه "الأنا" عن العملية نفسها. أسمي هذه النظرة، بالنظرة "النشطة" للذات. 

هذه محاولة لايجاد طريقة جديدة لربط العلم، بما يحب الكثير من الناس تسميته بالروحانية. فبدلا من أن تكون إما معارضة أو غير مبالية ببعضها البعض، يمكن للعلوم الحديثة والتقاليد التأملية العظيمة في العالم العمل معًا في مشروع مشترك، هو فهم العقل ومنح معنى حقيقي لحياة الإنسان على هذا الكوكب. من خلال ربط العلم بالمعرفة التأملية وإثراء التأمل بالعلوم المعرفية، يمكننا فتح نوافذ علمية وتأملية جديد للحياة البشرية.


 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

  شعر ميري أوليفر : ترياق لتجاوزات الحضارة ترجمة - خالد البدور فقد الشعر الأميركي   عام  2019  ميري أوليفر، أحد الأصوات الشعرية ...